قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللّٰهُ:
وَكَانَ الْجَهْمُ وَشِيعَتُهُ كَذٰلِكَ دَعَوُا النَّاسَ إِلَى الْمُتَشَابِهِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا بِكَلَامِهِمْ بَشَرًا كَثِيرًا.
فَكَانَ مِمَّا بَلَغَنَا مِنْ أَمْرِ الْجَهْمِ عَدُوِّ اللّٰهِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ مِنْ أَهْلِ التِّرْمِذِ، وَكَانَ صَاحِبَ خُصُومَاتٍ وَكَلَامٍ، وَكَانَ أَكْثَرُ كَلَامِهِ فِي اللّٰهِ، فَلَقِيَ أُنَاسًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، يُقَالُ لَهُمْ ”اَلسُّمَنِيَّةُ“، فَعَرَفُوا الْجَهْمَ،
فَقَالُوا لَهُ: نُكَلِّمُكَ، فَإِنْ ظَهَرَتْ حُجَّتُنَا عَلَيْكَ دَخَلْتَ فِي دِينِنَا، وَإِنْ ظَهَرَتْ حُجَّتُكَ عَلَيْنَا دَخَلْنَا فِي دِينِكَ!
فَكَانَ مِمَّا كَلَّمُوا بِهِ الْجَهْمَ أَنْ قَالُوا لَهُ:
أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّ لَكَ إِلٰهًا؟
قَالَ الْجَهْمُ: نَعَمْ.
فَقَالُوا لَهُ: فَهَلْ رَأَيْتَ إِلٰهَكَ؟
قَالَ: لَا.
قَالُوا: فَهَلْ سَمِعْتَ كَلَامَهُ؟
قَالَ: لَا.
قَالُوا: فَشَمَمْتَ لَهُ رَائِحَةً؟
قَالَ: لَا.
قَالُوا: فَهَلْ وَجَدْتَ لَهُ حِسًّا؟
قَالَ: لَا.
قَالُوا: فَوَجَدْتَ لَهُ مَجَسًّا؟
قَالَ لَا.
قَالُوا: فَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهُ إِلٰهٌ؟!
قَالَ: فَتَحَيَّرَ الْجَهْمُ، فَلَمْ يَدْرِ مَنْ يَعْبُدُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا!!
ثُمَّ إِنَّهُ اسْتَدْرَكَ حُجَّةً مِثْلَ حُجَّةِ زَنَادِقَةِ النَّصَارَى، وَذٰلِكَ أَنَّ زَنَادِقَةَ النَّصَارَى يَزْعُمُونَ أَنَّ الرُّوحَ الَّتِي هِي فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هِيَ رُوحُ اللّٰهِ، مِنْ ذَاتِ اللّٰهِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْدِثَ أَمْرًا دَخَلَ فِي بَعْضِ خَلْقِهِ، فَتَكَلَّمَ عَلَى لِسَانِ خَلْقِهِ، فَيَأْمُرُ بِمَا شَاءَ، وَيَنْهَى عَمَّا شَاءَ، وَهُوَ رُوحٌ غَائِبٌ عَنِ الْأَبْصَارِ.
فَاسْتَدْرَكَ الْجَهْمُ حُجَّةً مِثْلَ هٰذِهِ الْحُجَّةِ؛
فَقَالَ لِلسُّمَنِيِّ: أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّ فِيكَ رُوحًا؟
قَالَ: نَعَمْ.
فَقَالَ: فَهَلْ رَأَيْتَ رُوحَكَ؟
قَالَ: لَا.
قَالَ: فَهَلْ سَمِعْتَ كَلَامَهُ؟
قَالَ: لَا.
قَالَ: فَوَجَدْتَ لَهُ حِسًّا أَوْ مَجَسًّا؟
قَالَ: لَا.
قَالَ: فَكَذٰلِكَ اللّٰهُ لَا يُرَى لَهُ وَجْهٌ، وَلَا يُسْمَعُ لَهُ صَوْتٌ، وَلَا يُشَمُّ لَهُ رَائِحَةٌ، وَهُوَ غَائِبٌ عَنِ الْأَبْصَارِ، وَلَا يَكُونُ فِي مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ!.
وَوَجَدَ ثَلَاثَ آيَاتٍ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمُتَشَابِهِ:
قَوْلَهُ تَعَالَى:
﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ.﴾ [الشورى: ١١]،
وَقَوْلَهُ:
﴿وَهُوَ اللّٰهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ.﴾ [الأنعام: ٣]،
وَقَوْلَهُ:
﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ.﴾ [الأنعام: ١٠٣].
فَبَنَى أَصْلَ كَلَامِهِ كُلِّهِ عَلَى هٰؤُلَاءِ الْآيَاتِ، وَتَأَوَّلَ الْقُرْآنَ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ، وَكَذَّبَ بِأَحَادِيثِ رَسُولِ اللّٰهِ صَلَّى اللّٰهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَزَعَمَ أَنَّ مَنْ وَصَفَ مِنَ اللّٰهِ شَيْئًا مِمَّا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ، أَوْ حَدَّثَ بِهِ عَنْهُ رَسُولُهُ صَلَّى اللّٰهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ كَافِرًا وَكَانَ مِنَ الْمُشَبِّهَةِ. فَأَضَلَّ بِكَلَامِهِ بَشَرًا كَثِيرًا، وَتَبِعَهُ عَلَى قَوْلِهِ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابِ عَمْرٍو بْنِ عُبَيْدٍ بِالْبَصْرَةِ، وَوَضَعَ دِينَ الْجَهْمِيَّةِ.
فَإِذَا سَأَلَهُمُ النَّاسُ عَنْ قَوْلِ اللّٰهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ.﴾ [الشورى: ١١] وَمَا تَفْسِيرُهُ؟
يَقُولُونَ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَهُوَ تَحْتَ الْأَرْضِينِ السَّبْعِ كَمَا هُوَ عَلَى الْعَرْشِ، وَلَا يَخْلُو مِنْهُ مَكَانٌ، وَلَا يَكُونُ فِي مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ وَلَا يَتَكَلَّمُ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ أَحَدٌ فِي الدُّنْيَا، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ أَحَدٌ فِي الْآخِرَةِ، وَلَا يُوصَفُ وَلَا يُعْرَفُ بِصِفَةٍ وَلَا يَفْعَلُ، وَلَا لَهُ غَايَةٌ وَلَا لَهُ مُنْتَهَى، وَلَا يُدْرَكُ بِعَقْلٍ، وَهُوَ وَجْهٌ كُلُّهُ، وَهُوَ عِلْمٌ كُلُّهُ، وَهُوَ سَمْعٌ كُلُّهُ، وَهُوَ بَصَرٌ كُلُّهُ، وَهُوَ نُورٌ كُلُّهُ، وَهُوَ قُدْرَةٌ كُلُّهُ
وَلَا يَكُونُ شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَلَا يُوصَفُ بِوَصْفَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَلَيْسَ لَهُ أَعْلَى وَلَا أَسْفَلُ، وَلَا نَوَاحٍ وَلَا جَوَانِبَ، وَلَا يَمِينَ وَلَا شِمَالَ، وَلَا هُوَ ثَقِيلٌ وَلَا خَفِيفٌ، وَلَا لَهُ لَوْنٌ وَلَا لَهُ جِسْمٌ، وَلَيْسَ بِمَعْلُومٍ أَوْ مَعْقُولٍ، وَكُلَّ مَا خَطَرَ بِقَلْبِكَ أَنَّهُ شَيْءٌ تَعْرِفُهُ فَهُوَ عَلَى خِلَافِهِ!
قَالَ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللّٰهُ:
فَقُلْنَا هُوَ شَيْءٌ؟
فَقَالُوا: هُوَ شَيْءٌ لَا كَالْأَشْيَاءِ.
فَقُلْنَا: إِنَّ الشَّيْءَ الَّذِي لَا كَالْأَشْيَاءِ قَدْ عَرَفَ أَهْلُ الْعَقْلِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ.
فَعِنْدَ ذٰلِكَ، تَبَيَّنَ لِلنَّاسِ أَنَّهُمْ لَا يُثْبِتُونَ شَيْئًا، وَلٰكِنَّهُمْ يَدْفَعُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ الشُّنْعَةَ بِمَا يُقِرُّونَ مِنَ الْعَلَانِيَةِ.
فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: مَنْ تَعْبُدُونَ؟
قَالُوا: نَعْبُدُ مَنْ يُدَبِّرُ أَمْرَ هٰذَا الْخَلْقَ.
فَقُلْنَا: هٰذَا الَّذِي يُدَبِّرَ أَمْرَ هٰذَا الْخَلْقِ هُوَ مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ بِصِفَةٍ؟
قَالُوا: نَعَمْ.
قُلْنَا: قَدْ عَرَفَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّكُمْ لَا تُثْبِتُونَ شَيْئًا، وَإِنَّمَا تَدْفَعُونَ عَنْ أَنْفُسِكُمُ الشَّنْعَةَ بِمَا تُظْهِرُونَ.
وَقُلْنَا لَهُمْ: هٰذَا الَّذِي يُدَبِّرُ: هُوَ الَّذِي كَلَّمَ مُوسَى؟
قَالُوا: لَمْ يَتَكَلَّمْ وَلَا يُكَلَّمُ، لِأَنَّ الْكَلَامَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِجَارِحَةٍ، وَالْجَوَارِحُ عَنِ اللّٰهِ مَنْفِيَّةٌ.
فَإِذَا سَمِعَ الْجَاهِلُ قَوْلَهُمْ يَظُنُّ أَنَّهُمْ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ تَعْظِيمًا لِلّٰهِ سُبْحَانَهُ، وَلَا يَشْعُرُ أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَعُودُ قَوْلُهُمْ إِلَى فِرْيَةٍ فِي اللّٰهِ، وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَعُودُ قَوْلُهُمْ إِلَى ضَلَالَةٍ وَكُفْرٍ.
قَالَ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللّٰهُ:
فَمِمَّا يُسْأَلُ عَنْهُ الْجَهْمِيُّ يُقَالُ لَهُ: تَجِدُ فِي كِتَابِ اللّٰهِ آيَةً تُخْبِرُ عَنِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ؟!
فَلَا يَجِدُ.
فَيُقَالُ لَهُ: فَتَجِدُهُ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللّٰهِ صَلَّى اللّٰهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ؟!
فَلَا يَجِدُ.
فَيُقَالُ لَهُ: فَلِمَ قُلْتَ؟
فَسَيَقُولُ: مِنْ قَوْلِ اللّٰهِ تَعَالَى:
﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا.﴾ [الزخرف: ٣].
وَزَعَمَ أَنَّ ”جَعَلَ“ بِمَعْنَى ”خَلَقَ“، فَكُلُّ مَجْعُولٍ هُوَ مَخْلُوقٌ، فَادَّعَى كَلِمَةً مِنَ الْكَلَامِ الْمُتَشَابِهِ، يَحْتَجُّ بِهَا مَنْ أَرَادَ أَنْ يُلْحِدَ فِي تَنْزِيلِهَا، وَيَبْتَغِي الْفِتْنَةَ فِي تَأْوِيلِهَا، وَذٰلِكَ أَنَّ ”جَعَلَ“ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ عَلَى وَجْهَيْنِ: عَلَى مَعْنَى التَّسْمِيَةِ، وَعَلَى مَعْنَى فِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِهِمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى:
﴿اَلَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ.﴾ [الحجر: ٩١]،
قَالُوا: هُوَ شِعْرٌ، وَأَنْبَاءُ الْأَوَّلِينَ، وَأَضْغَاثُ أَحْلَامٍ، فَهٰذَا عَلَى مَعْنَى تَسْمِيَةٍ. وَقَالَ:
﴿وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمٰنِ إِنَاثًا.﴾ [الزخرف: ١٩]،
يَعْنِي أَنَّهُمْ سَمَّوْهُمْ إِنَاثًا.
ثُمَّ ذَكَرَ ”جَعَلَ“ عَلَى غَيْرِ مَعْنَى التَّسْمِيَةِ، فَقَالَ:
﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ.﴾ [البقرة: ١٩]،
فَهٰذَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى فِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِهِمْ، وَقَالَ:
﴿حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا.﴾ [الكهف: ٩٦]،
هٰذَا عَلَى مَعْنَى فَعَلَ، هٰذَا جَعْلُ الْمَخْلُوقِينَ. ثُمَّ ذَكَرَ ”جَعَلَ“ مِنَ اللّٰهِ عَلَى مَعْنَى ”خَلَقَ“، وَ”جَعَلَ“عَلَى غَيْرِ مَعْنَى ”خَلَقَ“ وَالَّذِي قَالَ اللّٰهُ تَعَالَى ”جَعَلَ“عَلَى مَعْنَى ”خَلَقَ“ لَا يَكُونُ إِلَّا خَلْقًا، وَلَا يَقُومُ إِلَّا مَقَامَ ”خَلَقَ“ لَا يَزُولُ عَنْهُ الْمَعْنَى،
فَإِذَا قَالَ تَعَالَى”جَعَلَ“ عَلَى غَيْرِ مَعْنَى ”خَلَقَ“، لَا يَكُونُ خَلَقًا، وَلَا يَقُومُ مَقَامَ ”خَلَقَ“، وَلَا يَزُولُ عَنْهُ الْمَعْنَى.
فَمِمَّا قَالَ اللّٰهُ عَزَّ وَجَلَّ ”جَعَلَ“ عَلَى مَعْنَى ”خَلَقَ“ قَوْلُهُ:
﴿اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ.﴾ [الأنعام: ١]
يَعْنِي: وَخَلَقَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ. وَقَالَ:
﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ.﴾ [النحل: ٧٨؛ السجدة: ٩]،
يَقُولُ: وَخَلَقَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ. وَقَالَ:
﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ.﴾ [الإسراء: ١٢]،
يَقُولُ: وَخَلَقْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ. وَقَالَ:
﴿وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا.﴾ [نوح: ١٦]، وَقَالَ:
﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا.﴾ [الأعراف: ١٨٩]،
يَقُولُ: وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا، يَقُولُ خَلَقَ مِنْ آدَمَ حَوَّاءَ. قَالَ:
﴿وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ.﴾ [النمل: ٦١]،
يَقُولُ: وَخَلَقَ لَهَا رَوَاسِيَ.
وَمِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ، فَهٰذَا وَمَا كَانَ عَلَى مِثْلِهِ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى مَعْنَى ”خَلَقَ“.
ثُمَّ ذَكَرَ ”جَعَلَ“ عَلَى مَعْنَى غَيْرِ ”خَلَقَ“ قَوْلُهُ:
﴿مَا جَعَلَ اللّٰهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ.﴾ [المائدة: ١٠٣]،
لَا يَعْنِي ”مَا خَلَقَ اللّٰهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ“.
وَقَالَ اللّٰهُ تَعَالَى لِإِبْرَاهِيمَ:
﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا.﴾ [البقرة: ١٢٤]،
لَا يَعْنِي: ”إِنِّي خَالِقُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا“، لِأَنَّ خَلْقَ إِبْرَاهِيمَ كَانَ مُتَقَدِّمًا.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ:
﴿رَبِّ اجْعَلْ هٰذَا الْبَلَدَ آمِنًا.﴾ [إبراهيم: ٣٥]،
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ:
﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي.﴾ [إبراهيم: ٤٠]،
لَا يَعْنِي: ”اُخْلُقْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ“. وَقَالَ:
﴿يُرِيدُ اللّٰهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ.﴾ [آل عمران: ١٧٦]،
لَا يَعْنِي: ”يُرِيدُ اللّٰهُ أَنْ لَا يَخْلُقَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ “.
وَقَالَ لِأُمِّ مُوسَى:
﴿إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ.﴾ [القصص: ٧]
لَا يَعْنِي: ”خَالِقُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ“، لِأَنَّ اللّٰهَ تَعَالَى وَعَدَ أُمَّ مُوسَى أَنْ يَرُدَّهُ إِلَيْهَا، ثُمَّ يَجْعَلُهُ مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ مُرْسَلًا.
وَقَالَ:
﴿وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ.﴾ [الأنفال: ٣٧]،
لَا يَعْنِي: ”فَيَخْلُقَهُ فِي جَهَنَّمَ“.
قَالَ:
﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ.﴾ [القصص: ٥]،
لَا يَعْنِي: ”وَنَخْلُقَهُمْ أَئِمَّةً وَنَخْلُقَهُمْ الْوَارِثِينَ“،
وَقَالَ:
﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا.﴾ [الأعراف: ١٤٣]،
لَا يَعْنِي: ”خَلَقَهُ دَكًّا“، وَمِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. فَهٰذَا -وَمَا كَانَ عَلَى مِثَالِهِ- لَا يَكُونُ عَلَى مَعْنَى ”خَلَقَ“، فَإِذَا قَالَ اللّٰهُ: ”جَعَلَ“ عَلَى مَعْنَى ”خَلَقَ“. وَقَالَ: ”جَعَلَ“ عَلَى غَيْرِ مَعْنَى ”خَلَقَ“، فَبِأَيِّ حُجَّةٍ قَالَ الْجَهْمِيُّ ”جَعَلَ“ عَلَى مَعْنَى ”خَلَقَ“؟
فَإِنْ رَدَّ الْجَهْمِيُّ ”الْجَعْلَ“ إِلَى الْمَعْنَى الَّذِي وَصَفَهُ اللّٰهُ فِيهِ وَإِلَّا كَانَ مِنَ الَّذِينَ
﴿يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللّٰهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ.﴾ [البقرة: ٧٥].
فَلَمَّا قَالَ اللّٰهُ عَزَّ وَجَلَّ:
﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا.﴾ [الزخرف: ٣]،
يَقُولُ: جَعَلَهُ عَرَبِيًّا، جَعَلَهُ ”جَعْلًا“ عَلَى مَعْنَى فِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِ اللّٰهِ تَعَالَى، عَلَى غَيْرِ مَعْنَى ”خَلَقَ“.
وَقَالَ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ:
﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ.﴾ [الزخرف: ٣]،
وَقَالَ:
﴿لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ۞ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ.﴾ [الشعراء: ١٩٤- ١٩٥]،
وَقَالَ:
﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ.﴾ [مريم: ٩٧؛ الدخان: ٥٨].
فَلَمَّا جَعَلَ اللّٰهُ الْقُرْآنَ عربيًّا، وَيَسَّرَهُ بِلِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللّٰهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ ذٰلِكَ فِعْلًا مِنْ أَفْعَالِ اللّٰهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، جَعَلَ بِهِ الْقُرْآنَ عربيًّا، وَلَيْسَ كَمَا زَعَمُوا مَعْنَاهُ: أَنْزَلْنَاهُ بِلِسَانِ الْعَرَبِ. وَقِيلَ: بَيَّنَّاهُ، يَعْنِي هٰذَا بَيَانٌ لِمَنْ أَرَادَ اللّٰهُ هُدَاهُ.