بَابُ
مَا تَأَوَّلَتِ الْجَهْمِيَّةُ مِنْ قَوْلِ اللّٰهِ تَعَالَى: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ.﴾ [الحديد: ٣]
فَزَعَمُوا أَنَّ اللّٰهَ هُوَ الْأَوَّلُ قَبْلَ الْخَلْقِ فَصَدَقُوا.
وَقَالُوا: يَكُونُ الْآخِرُ بَعْدَ الْخَلْقِ، فَلَا تَبْقَى سَمَاءٌ وَلَا أَرْضٌ، وَلَا جَنَّةٌ وَلَا نَارٌ، وَلَا ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ، وَلَا عَرْشٌ وَلَا كُرْسِيٌّ.
وَزَعَمُوا أَنَّ شَيْئًا مَعَ اللّٰهِ لَا يَكُونُ، هُوَ الْآخِرُ كَمَا كَانَ.
فَأَضَلُّوا بِهٰذَا بَشَرًا كَثِيرًا.
فَقُلْنَا: أَخْبَرَنَا اللّٰهُ عَنِ الْجَنَّةِ وَدَوَامِ أَهْلِهَا فِيهَا فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:
﴿لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ.﴾ [التوبة: ٢١].
وَقَالَ:
﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا.﴾ [النساء: ٥٧].
وَقَالَ:
﴿أُكُلُهَا دَائِمٌ.﴾ [الرعد: ٣٥]،
فَإِذَا قَالَ اللّٰهُ: ﴿دَائِمٌ.﴾ [الرعد: ٣٥] أَيْ: لَا يَنْقَطِعُ أَبَدًا. وَقَالَ:
﴿وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ.﴾ [الحجر: ٤٨].
وَقَالَ:
﴿وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ.﴾ [غافر: ٣٩].
وَقَالَ:
﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِـيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ.﴾ [العنكبوت: ٦٤].
وَقَالَ:
﴿مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا.﴾ [الكهف: ٣].
وَقَالَ:
﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّٰهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.﴾ [آل عمران: ١٠٧].
وَقَالَ:
﴿وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ ۞ لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ.﴾ [الواقعة: ٣٢-٣٣].
وَمِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. ثُمَّ ذَكَرَ أَهْلَ النَّارِ فَقَالَ:
﴿لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا.﴾ [فاطر: ٣٦].
وَقَالَ:
﴿أُولٰئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي.﴾ [العنكبوت: ٢٣]،
وَقَالَ:
﴿لَا يَنَالُهُمُ اللّٰهُ بِرَحْمَةٍ.﴾ [الأعراف: ٤٩].
وَقَالَ:
﴿وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ.﴾ [الزخرف: ٧٧].
وَقَالَ:
﴿سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ.﴾ [إبراهيم: ٢١].
وَقَالَ:
﴿خَالِدِينَ فِيهَا أُولٰئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ.﴾ [البينة : ٦].
وَقَالَ:
﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا.﴾ [النساء: ٥٦].
وَقَالَ:
﴿كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا.﴾ [السجدة : ٢٠].
وَقَالَ:
﴿إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ.﴾ [الهمزة : ٨]،
وَمِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ.
وَأَمَّا السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ فَقَدْ زَالَتَا لِأَنَّ أَهْلَهَا صَارُوا إِلَى الْجَنَّةِ، أَوْ إِلَى النَّارِ.
وَأَمَّا الْعَرْشُ فَلَا يَبِيدُ، وَلَا يَذْهَبُ لِأَنَّهُ سَقْفُ الْجَنَّةِ، وَاللّٰهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَيْهِ فَلَا يَهْلِكُ وَلَا يَبِيدُ.
وَأَمَّا قَوْلُ اللّٰهِ عَزَّ وَجَلَّ:
﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ.﴾ [القصص: ٨٨]،
وَذٰلِكَ أَنَّ اللّٰهَ أَنْزَلَ:
﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ.﴾ [الرحمن: ٢٦].
قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: هَلَكَ أَهْلُ الْأَرْضِ، فَطَمِعُوا فِي الْبَقَاءِ، فَأَنْزَلَ اللّٰهُ مُخْبِرًا عَنْ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَأَهْلِ الْأَرْضِ أَنَّهُمْ يَمُوتُونَ، وَقَالَ: ﴿كُلُّ شَيْءٍ.﴾ يَعْنِي: مِنَ الْحَيَوَانِ ﴿هَالِكٌ.﴾ يَعْنِي: مَيِّتٌ، ﴿إِلَّا وَجْهَهُ.﴾ [القصص: ٨٨]، لِأَنَّهُ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، فَأَيْقَنُوا عِنْدَ ذٰلِكَ بِالْمَوْتِ.
وَقُلْنَا لِلْجَهْمِيَّةِ حِينَ زَعَمُوا أَنَّ اللّٰهَ فِي كُلِّ مَكَانٍ، لَا يَخْلُو مِنْهُ مَكَانٌ دُونَ مَكَانٍ.
فَقُلْنَا لَهُمْ: أَخْبِرُونَا عَنْ قَوْلِ اللّٰهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ:
﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا.﴾ [الأعراف: ١٤٣]،
لِمَ تَجَلَّى لِلْجَبَلِ إِنْ كَانَ فِيهِ بِزَعْمِكُمْ؟!
فَلَوْ كَانَ فِيهِ كَمَا تَزْعُمُونَ لَمْ يَكُنْ يَتَجَلَّى لِشَيْءٍ هُوَ فِيهِ، وَلٰكِنَّ اللّٰهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَلَى الْعَرْشِ، وَتَجَلَّى لِشَيْءٍ لَمْ يَكُنْ فِيهِ، وَرَأَى الْجَبَلُ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ رَآهُ قَطُّ قَبْلَ ذٰلِكَ.
وَقُلْنَا لِلْجَهْمِيَّةِ: اَللّٰهُ نُورٌ؟
فَقَالُوا: هُوَ نُورٌ كُلُّهُ.
فَقُلْنَا: فَإِنَّ اللّٰهَ قَالَ:
﴿وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا.﴾ [الزمر: ٦٩]،
فَقَدْ أَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ لَهُ نُورًا.
وَقُلْنَا لَهُمْ: أَخْبِرُونَا حِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّ اللّٰهَ تَعَالَى فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَهُوَ نُورٌ فَلِمَ لَا يُضِيءُ الْبَيْتُ الْمُظْلِمُ مِنْ النُّورِ الَّذِي هُوَ فِيهِ إِذْ زَعَمْتُمْ أَنَّ اللّٰهَ فِي كُلِّ مَكَانٍ؟
وَمَا بَالُ السِّرَاجِ إِذَا أُدْخِلَ الْبَيْتَ يُضِيءُ؟
فَعِنْدَ ذٰلِكَ تَبَيَّنَ لِلنَّاسِ كَذِبَهُمْ عَلَى اللّٰهِ.
فَرَحِمَ اللّٰهُ مَنْ عَقَلَ عَنِ اللّٰهِ، وَرَجَعَ عَنِ الْقَوْلِ الَّذِي يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَقَالَ بِقَوْلِ الْعُلَمَاءِ: وَهُوَ قَوْلُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَتَرَكَ دِينَ الشَّيَاطِينِ وَدِينَ جَهْمٍ وَشِيعَتِهِ.