Tevhide Davet

شرح ستة مواضيع من السيرة | شيخ الاسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى

Başlatan Subul’us Selâm, 03.03.2023, 03:29

« önceki - sonraki »

0 Üyeler ve 1 Ziyaretçi konuyu incelemekte.

Subul’us Selâm


شَرْحُ سِتَّةِ مَوَاضِيعَ مِنَ السِّيرَةِ1

تَأْلِيف: الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.

قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:

تَأَمَّلْ رَحِمَكَ اللهُ، سِتَّةَ مَوَاضِعَ مِنَ السِّيرَةِ، وَافْهَمْهَا فَهْمًا حَسَنًا، لَعَلَّ اللهَ أَنْ يُفْهِمَكَ دِينَ الْأَنْبِيَاءِ لِتَتَّبِعَهُ، وَدِينَ الْمُشْرِكِينَ لِتَتْرُكَهُ، فَإنَّ أكْثَرَ مَنْ يَدَّعِي الدِّينَ وَيُدْعَى مِنَ الْمُوَحِّدِينَ لاَ يَفْهَمُ السِّتَّةَ كَمَا يَنْبَغِي:

(اَلْأَوَّلُ): قِصَّةُ نُزُولِ الْوَحْيِ؛ وَفِيهَا أنَّ أوَّلَ آيَةٍ أَرْسَلَهُ اللهُ بِهَا

﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ.﴾ [المدثر: 1-2] إلَى قَوْلِهِ:

﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ.﴾ [المدثر: 7]،

فَإِذَا فَهِمْتَ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ أَشْيَاءَ كَثِيرًةً يَعْرِفُونَ أَنَّهَا مِنَ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ مِثْلَ الزِّنَى، وَعَرَفْتَ أَيْضًا أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ شَيْئًا مِنَ الْعِبَادَةِ، يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إِلَى اللهِ مِثْلِ الْحَجِّ، وَالْعُمْرَةِ، وَالصَّدَقَةِ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ وَغَيْرِ ذٰلِكَ، وَأَجَلُّهَا عِنْدَهُمُ الشِّرْكُ، فَهُوَ أَجَلُّ مَا يَتَقَرَّبُونَ بِهِ إِلَى اللهِ عِنْدَهُمْ.

كَمَا ذَكَرَ اللهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا:

﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّٰهِ زُلْفَى.﴾ [الزمر: 3]، وَيَقُولُونَ:

﴿هٰؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللّٰهِ.﴾ [يونس: 18]، وَقَالَ تَعَالَى:

﴿إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللّٰهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ.﴾ [الأعراف: 30]

فَأَوَّلُ مَا أَمَرَهُ اللهُ بِهِ: اَلْإِنْذَارُ عَنْهُ قَبْلَ الْإِنْذَارِ عَنِ الزِّنَى، وَالسَّرِقَةِ، وَغَيْرِهِمَا، وَعَرَفْتَ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ تَعَلَّقَ عَلَى الْأَصْنَامِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَعَلَّقَ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ وَعَلَى الْأَوْلِيَاءِ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَيَقُولُونَ مَا نُرِيدُ مِنْهُمْ إِلاَّ شَفَاعَتَهُمْ، وَمَعَ هٰذَا بَدَأَ بِالْإِنْذَارِ عَنْهُ فِي أَوَّلِ آيَةٍ أَرْسَلَهُ اللهُ بِهَا، فَإِنْ أَحْكَمْتَ هٰذِهِ الْمَسْأَلَةَ فَيَا بُشْرَاكَ، خُصُوصًا إِذَا عَرَفْتَ أَنَّ مَا بَعْدَهَا أَعْظَمُ مِنَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَلَمْ تُفْرَضْ إِلاَّ فِي لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ سَنَةَ عَشْرٍ، بَعْدَ حِصَارِ الشِّعْبِ وَمَوْتِ أَبِي طَالِبٍ وَبَعْدَ هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ بِسَنَتَيْنِ، فَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ تِلْكَ الْأُمُورَ الْكَثِيرَةَ وَالْعَدَاوَةَ الْبَالِغَةَ كُلُّ ذٰلِكَ عِنْدَ هٰذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَبْلَ فَرْضِ الصَّلاَةِ، رَجَوْتُ أَنْ تَعْرِفَ الْمَسْأَلَةَ.

(اَلْمَوْضِعُ الثَّانِي): أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا قَامَ يُنْذِرُهُمْ عَنِ الشِّرْكِ، وَيَأْمُرُهُمْ بِضِدِّهِ وَهُوَ: اَلتَّوْحِيدُ، لَمْ يَكْرَهُوا ذٰلِكَ، وَاسْتَحْسَنُوهُ، وَحَدَّثُوا أَنْفُسَهُمْ بِالدُّخُولِ فِيهِ، إِلَى أَنْ صَرَّحَ بِسَبِّ دِينِهِمْ وَتَجْهِيلِ عُلَمَائِهِمْ، فَحِينَئِذٍ شَمَّرُوا لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ عَنْ سَاقِ الْعَدَاوَةِ، وَقَالُوا:

سَفَّهَ أَحْلاَمَنَا، وَعَابَ دِينَنَا، وَشَتَمَ آلِهَتَنَا.

وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَشْتُمْ عِيسَى وَأُمَّهُ، وَلاَ الْمَلاَئِكَةَ، وَلاَ الصَّالِحِينَ، لٰكِنْ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُمْ لاَ يُدْعَوْنَ وَلاَ يَنْفَعُونَ وَلاَ يَضُرُّونَ جَعَلُوا ذٰلِكَ شَتْمًا.

فَإِذَا عَرَفْتَ هٰذَا، عَرَفْتَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لاَ يَسْتَقِيمُ لَهُ إِسْلاَمٌ، وَلَوْ وَحَّدَ اللهَ وَتَرَكَ الشِّرْكَ إِلاَّ بِعَدَاوَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَالتَّصْرِيحِ لَهُمْ بِالْعَدَاوَةِ وَالْبُغْضِ.

كَمَا قَالَ تَعَالَى:

﴿لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللّٰهَ وَرَسُولَهُ.﴾ [المجادلة: 22] اَلْآيَة.

فَإِذَا فَهِمْتَ هٰذَا فَهْمًا جَيِّدًا، عَرَفْتَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الَّذِينَ يَدَّعُونَ الدِّينَ لاَ يَعْرِفُونَهَا، وَإِلاَّ فَمَا الَّذِي حَمَلَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى ذٰلِكَ الْعَذَابِ وَالْأَسْرِ وَالضَّرْبِ وَالْهِجْرَةِ إِلَى الْحَبَشَةِ، مَعَ أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْحَمُ النَّاسِ؛ لَوْ يَجِدُ لَهُمْ رُخْصَةً لَأَرْخَصَ لَهُمْ، كَيْفَ وَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى؟

﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللّٰهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللّٰهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللّٰهِ.﴾ [العنكبوت: 10]

فَإِذَا كَانَتْ هٰذِهِ الْآيَةُ فِيمَنْ وَافَقَهُمْ بِلِسَانِهِ، فَكَيْفَ بِغَيْرِ ذٰلِكَ؟

(اَلْمَوْضِعُ الثَّالِثِ): قِصَّةُ قِرَاءَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُورَةَ النَّجْمِ بِحَضْرَتِهِمْ، فَلَمَّا بَلَغَ:

﴿أَفَرَأَيْتُمُ الْلاَّتَ وَالْعُزَّى.﴾ [النجم: 19]

أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي تِلاَوَتِهِ: "تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى، وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لِتُرْتَجَى."

فَظَنُّوا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهَا، فَفَرِحُوا بِذٰلِكَ، وَقَالُوا كَلاَمًا مَعْنَاهُ:

"هٰذَا الَّذِي نُرِيدُ، وَنَحْنُ نَعْرِفُ أنَّ اللهَ هُوَ النَّافِعُ الضَّارُّ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَلٰكِنَّ هٰؤُلاَءِ يَشْفَعُونَ لَنَا عِنْدَهُ."

فَلَمَّا بَلَغَ السَّجْدَةَ سَجَدَ وَسَجَدُوا مَعَهُ، فَشَاعَ الْخَبَرُ أَنَّهُمْ صَافَوْهُ. وَسَمِعَ بِذٰلِكَ مَنْ بِالْحَبَشَةِ فَرَجَعُوا، فَلَمَّا أَنْكَرَ ذٰلِكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَادُوا إلَى شَرٍّ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ. وَلَمَّا قَالُوا لَهُ "إِنَّكَ قُلْتَ ذٰلِكَ"، خَافَ مِنَ اللهِ خَوْفًا عَظِيمًا، حَتَّى أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ:

﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ.﴾ [الحج: 52] اَلْآيَة،

فَمَنْ فَهِمَ هٰذِهِ الْقِصَّةَ ثُمَّ شَكَّ بَعْدَهَا فِي دِينِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ دِينِ الْمُشْرِكِينَ، فَأَبْعَدَهُ اللهُ خُصُوصًا إِنْ عَرَفَ أَنَّ قَوْلَهُمْ: "تِلْكَ الْغَرَانِيقُ" الْمَلاَئِكَةُ.

(اَلْمَوْضِعُ الرَّابِعِ): قِصَّةُ أَبِي طَالِبٍ. فَمَنْ فَهِمَهَا فَهْمًا حَسَنًا، وَتَأَمَّلَ إِقْرَارَهُ بِالتَّوْحِيدِ، وَحَثَّ النَّاسِ عَلَيْهِ، وَتَسْفِيهَ عُقُولِ الْمُشْرِكِينَ، وَمَحَبَّتَهُ لِمَنْ أَسْلَمَ وَخَلعَ الشِّرْكَ، ثُمَّ بَذْلَ عُمْرِهِ وَمَالِهِ وَأَوْلاَدِهِ وَعَشِيرَتِهِ فِي نُصْرَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَنْ مَاتَ، ثُمَّ صَبْرَهُ عَلَى الْمَشَّقَّةِ الْعَظِيمَةِ، وَالْعَدَاوَةِ الْبَالِغَةِ، لٰكِنْ لَمَّا لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ، وَلَمْ يَتَبَرَّأْ مِنْ دِينِهِ الْأَوَّلِ لَمْ يَصِرْ مُسْلِمًا، مَعَ أَنَّهُ يَعْتَذِرُ مِنْ ذٰلِكَ بِأَنَّ فِيهِ مَسَبَّةَ لِأَبِيهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَلِهَاشِمٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ مَشَايِخِهِمْ، ثُمَّ مَعَ قَرَابَتِهِ وَنُصْرَتِهِ اِسْتَغْفَرَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ:

﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ.﴾ [التوبة: 113]

وَالَّذِي يُبَيِّنُ هٰذَا أَنَّهُ إِذَا عُرِفَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ أَوِ الأَحْسَاءِ بِحُبِّ الدِّينِ وَبِحُبِّ الْمُسْلِمِينَ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَنْصُرِ الدِّينَ بِيَدٍ وَلاَ مَالٍ وَلاَ لَهُ مِنَ الْأَعْذَارِ مِثْلُ مَا لِأَبِي طَالِبٍ، وَفَهِمَ الْوَاقِعَ مِنْ أَكْثَرِ مَنْ يَدَّعِي الدِّينَ، تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى مِنَ الضَّلاَلِ، وَعَرَفَ سُوءَ الْأَفْهَامِ، وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ.

(اَلْمَوْضِعُ الْخَامِسِ): قِصَّةُ الْهِجْرَةِ، وَفِيهَا مِنَ الْفَوَائِدِ وَالْعِبَرِ مَا لاَ يَعْرِفُهُ أَكْثَرُ مَنْ قَرَأَهَا، وَلٰكِنَّ مُرَادَنَا الْآنَ مَسْأَلَةٌ مِنْ مَسَائِلِهَا، وَهِيَ أَنَّ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ - مِنْ غَيْرِ شَكٍّ فِي الدِّينِ وَتَزْيِينِ دِينِ الْمُشْرِكِينَ - وَلٰكِنْ مَحَبَّةً لِلْأَهْلِ وَالْمَالِ وَالْوَطَنِ، فَلَمَّا خَرَجُوا إِلَى بَدْرٍ خَرَجُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ كَارِهيِنَ، فَقُتِلَ بَعْضُهُمْ بِالرَّمِيِ، وَالرَّامِي لاَ يَعْرِفُهُ. فَلَمَّا سَمِعَ الصَّحَابَةُ أَنَّ مِنَ الْقَتْلَى فُلاَنًا وَفُلاَنًا شَقَّ عَلَيْهِمْ وَقَالُوا:" قَتَلْنَا إِخْوَانَنَا"، فأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى:

﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّٰهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا. إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً. فَأُولٰئِكَ عَسَى اللّٰهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّٰهُ عَفُوًّا غَفُورًا.﴾ [النساء:97-99]

فَمَنْ تَأَمَّلَ قِصَّتَهُمْ وَتَأَمَّلَ قَوْلَ الصَّحَابَةِ "قَتَلْنَا إِخْوَانَنَا" عَلِمَ أَنَّهُ لَوْ بَلَغَهُمْ عَنْهُمْ كَلاَمٌ فِي الدِّينِ أَوْ كَلاَمٌ فِي تَزْيِينِ دِينِ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَقُولُوا: "قَتَلْنَا إِخْوَانَنَا"، فَإنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ لَهُمْ - وَهُمْ بِمَكَّةِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ - أَنَّ ذٰلِكَ كُفْرٌ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:

﴿مَنْ كَفَرَ بِاللّٰهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ.﴾ [النحل: 106]

وَأَبْلَغُ مِنْ هٰذَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلاَمِ اللهِ تَعَالَى فِيهِمْ، فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَقُولُ:

﴿فِيمَ كُنْتُمْ﴾ ؟ وَلَمْ يَقُولُوا: "كَيْفَ تَصْدِيقُكُمْ" ﴿قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ.﴾ [النساء: 97] وَلَمْ يَقُولُوا "كَذَبْتُمْ"، مِثْلَ مَا يَقُولُ اللهُ وَالْمَلاَئِكَةُ لِلْمُجَاهِدِ الَّذِي يَقُولُ "جَاهَدْتُ فِي سَبِيلِكَ حَتَّى قُتِلْتُ"، فَيَقُولُ اللهُ "كَذَبْتَ"، وَتَقُولُ الْمَلاَئِكَةُ "كَذَبْتَ، بَلْ قَاتَلْتَ لِيُقَالَ جَرِيءٌ"، وَكَذٰلِكَ يَقُولُونَ لِلْعَالِمِ وَالْمُتَصَدِّقِ "كَذَبْتَ، بَلْ تَعَلَّمْتَ لِيُقَالَ عَالِمٌ، وَتَصَدَّقْتَ لِيُقَالَ جَوَادٌ. "وَأَمَّا هٰؤُلاَءِ فَلَمْ يُكَذِّبُوهُمْ بَلْ أَجَابُوهُمْ بِقَوْلِهِمْ:

﴿أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّٰهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا.﴾ [النساء: 97]

وَيَزِيدُ ذٰلِكَ إِيضَاحًا لِلْعَارِفِ وَالْجَاهِلِ الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى:

﴿إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً.﴾ [النساء: 98]

فَهٰذَا أَوْضَحَ جِدًا أَنَّ هٰؤُلاَءِ خَرَجُوا مِنَ الْوَعِيدِ فَلَمْ يَبْقَ شُبْهَةٌ، لٰكِنْ لِمَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ، بِخِلاَفِ مَنْ لَمْ يَطْلُبْهُ، بَلْ قَالَ اللهُ فِيهِمْ:

﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ.﴾ [البقرة: 18]

وَمَنْ فَهِمَ هٰذَا الْمَوْضِعَ وَالَّذِي قَبْلَهُ، فَهِمَ كَلاَمَ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: "لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّحَلِّي وَلَا بِالتَّمَنِّي، وَلٰكِنْ مَا وَقَرَ فِي الْقُلُوبِ وَصَدَّقَتْهُ الْأَعْمَالُ"، وَذٰلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ:

﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ.﴾ [فاطر: 10]

(اَلْمَوْضِعُ السَّادِسُ): قِصَّةُ الرِّدَّةِ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَنْ سَمِعَهَا لاَ يَبْقَى فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ شُبْهَةِ الشَّيَاطِينَ الَّذِينَ يُسَمَّوْنَ "اَلْعُلَمَاءُ"، وَهِيَ قَوْلُهُمْ "هٰذَا هُوَ الشِّرْكُ، لٰكِنْ يَقُولُونَ "لاَ إلٰهَ إلاَّ اللهُ" وَمَنْ قَالَهَا لاَ يُكَفَّرُ بِشَيْءٍ" وَأَعْظَمُ مِنْ ذٰلِكَ وَأَكْبَرُ تَصْرِيحُهُمْ بِأَنَّ "اَلْبَوَادِي لَيْسَ مَعَهُمْ مِنَ الْإِسْلاَمِ شَعْرَةٌ وَلٰكِنْ يَقُولُونَ لاَ إلٰهَ إلاَّ اللهُ، وَهُمْ بِهٰذِهِ اللَّفْظَةِ أَهْلُ إِسْلاَمٍ وَحَرَّمَ الْإِسْلاَمُ مَالَهُمْ وَدَمَهُمْ"،

مَعَ إِقْرَارِهِمْ بِأَنَّهُمْ تَرَكُوا الْإِسْلَامَ كُلَّهُ، وَمَعَ عِلْمِهِمْ بِإِنْكَارِهِمُ الْبَعْثِ وَاسْتِهْزَائِهِمْ بِمَنْ أَقَرَّ بِهِ، وَاسْتِهْزَائِهِمْ وَتَفْضِيلِهِمْ دِينَ آبَائِهِمُ الْمُخَالِفَ لِدِينِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعَ هٰذَا كُلِّهِ يُصَرِّحُ هٰؤُلاَءِ الشَّيَاطِينُ الْمَرَدَةُ الْجَهَلَةُ أَنَّ الْبَدْوَ أَسْلَمُوا - وَلَوْ جَرَى مِنْهُمْ ذٰلِكَ كُلُّهُ - لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ لاَ إلٰهَ إلاَّ اللهُ.

وَلاَزِمُ قَوْلِهِمْ أَنَّ الْيَهُودَ أَسْلَمُوا لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَهَا، وَأَيْضًا كُفْرُ هٰؤُلاَءِ أَغْلَظُ مِنْ كُفْرِ الْيَهُودِ بِأَضْعَافٍ مُضَاعَفَةٍ، أَعْنِي: اَلْبَوَادِي الْمُتَّصِفِينَ بِمَا ذَكَرْنَا.

وَالَّذِي يُبَيِّنُ ذٰلِكَ مِنْ قِصَّةِ الرِّدَّةِ أَنَّ الْمُرْتَدِّينَ افْتَرَقُوا فِي رِدَّتِهِمْ:

فَمِنْهُمْ مَنْ كَذَّبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَعُوا إِلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَقَالُوا:" لَوْ كَانَ نَبِيًّا مَا مَاتَ."

وَمِنْهُمْ مَنْ ثَبَتَ عَلَى الشَّهَادَتَيْنِ، وَلٰكِنْ أَقَرَّ بِنُبُوَّةِ مُسَيْلِمَةَ ظَنًّا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْرَكَهُ فِي النُّبُوَّةِ، لِأَنَّ مُسَيْلِمَةَ أَقَامَ شُهُودَ زُورٍ شَهِدُوا لَهُ بِذٰلِكَ، فَصَدَّقَهُمْ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَمَعَ هٰذَا أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ أَنَّهُمْ مُرْتَدُّونَ وَلَوْ جَهِلُوا ذٰلِكَ، وَمَنْ شَكَّ فِي رِدَّتِهِمْ فَهُوَ كَافِرٌ.

فَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ أَجْمَعُوا أَنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا وَرَجَعُوا إِلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَشَتَمُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُمْ وَمَنْ أَقَرَّ بِنُبُوَّةِ مُسَيْلِمَةَ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، وَلَوْ ثَبَتَ عَلَى الْإِسْلاَمِ كُلِّهِ.

وَمِنْهُمْ مَنْ أَقَرَّ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَصَدَّقَ طُلَيْحَةَ فِي دَعْوَاهُ النُّبُوَّةِ.

وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّقَ الْعَنْسِيَّ صَاحِبَ صَنْعَاءِ.

وَكُلُّ هٰؤُلاَءِ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ أَنَّهُمْ سَوَاءٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَذَّبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَعَ إِلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ عَلَى حَالٍ وَاحِدَةٍ.

وَمِنْهُمْ أَنْوَاعٌ أُخَرُ، آخِرُهُمْ الْفُجَاءَةُ السُّلَمِيّ لَمَّا وَفَدَ عَلَى أبِي بَكْرٍ وَذَكَرَ لَهُ أَنَّهُ يُرِيدُ قِتَالَ الْمُرْتَدِّينَ وَيَطْلُبُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ أَنْ يَمُدَّهُ، فَأَعْطَاهُ سِلاَحًا وَرَوَاحِلَ، فَاسْتَعْرَضَ السُّلَمِيُّ الْمُسْلِمَ وَالْكَافِرَ يَأْخُذُ أَمْوَالَهُمْ، فَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ جَيْشًا لِقِتَالِهِ. فَلَمَّا أَحَسَّ بِالْجَيْشِ، قَالَ لِأَمِيرِهِمْ: "أَنْتَ أَمِيرُ أَبِي بَكْرٍ، وَأَنَا أَمِيرُهُ وَلَمْ أَكْفُرْ"، فَقَالَ: "إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَأَلْقِ السِّلاَحَ"، فَأَلْقَاهُ، فَبَعَثَ بِهِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَأَمَرَ بِتَحْرِيقِهِ بِالنَّارِ وَهُوَ حَيٌّ.

فَإِذَا كَانَ هٰذَا حُكْمَ الصَّحَابَةِ فِي هٰذَا الرَّجُلِ، مَعَ إِقْرَارِهِ بِأَرْكَانِ الْإِسْلاَمِ الْخَمْسَةِ، فَمَا ظَنُّكَ بِمَنْ لَمْ يُقِرَّ مِنَ الْإِسْلَامِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ إِلاَّ أَنْ يَقُولَ لاَ إِلٰهَ إِلاَّ اللهُ بِلِسَانِهِ، مَعَ تَصْرِيحِهِ بِتَكْذِيبِ مَعْنَاهَا، وَتَصْرِيحِهِ بِالْبَرَاءَةِ، مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، وَيَقُولُونَ "هٰذَا دِينُ الْحَضَرِ وَدِينُنَا دِينُ آبَائِنَا"، ثُمَّ يُفْتُونَ هٰؤُلاَءِ الْمَرَدَةُ الْجُهَّالُ أَنَّ هٰؤُلاَءِ مُسْلِمُونَ، وَلَوْ صَرَّحُوا بِذٰلِكَ كُلِّهِ، إِذَا قَالُوا "لاَ إِلٰهَ إِلاَّ اللهُ."

﴿سُبْحَانَكَ هٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ. ﴾ [النور: 16]

وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ وَاحِدٌ مِنَ الْبَوَادِيِّ لَمَّا قَدِمَ عَلَيْنَا وَسَمِعَ شَيْئًا مِنَ الْإِسْلاَمِ قَالَ: "أَشْهَدُ أَنَّنَا كُفَّارٌ"، يَعْنِي: هُوَ وَجَمِيعَ الْبَوَادِيِّ، "وَأَشْهَدُ أَنَّ الْمُطَوِّعَ الَّذِي يُسَمِّينَا أَهْلَ الْإِسْلاَمِ أَنَّهُ كَافِرٌ. "

تَمَّ وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.


1- مُؤَلَّفَاتُ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ، 353/1-362.
"Eğer cahil ısrar ederse, büyüklenirse, sapıklığında ve dalaletinde kararlıysa, körlüğü hidayete seçmişse ve içerisine düşüp kendisi hakkında cedelleştiği şey, kendisini işleyen şahsı Müslümanlar fırkasından müşrikler zümresine çıkaran büyük şirk kapsamındansa, bu durumda adil hüküm, kılıçtır!" (el-Feth'ur Rabbânî min Fetâvâ'l İmâm eş-Şevkânî, 1/185)

🡱 🡳

Benzer Konular (5)