Tevhide Davet

13 Zu'l-ka'de 1445, 10:07

Haberler:

Telegram adresimiz: https://t.me/darultawhid

Ana Menü

Son İletiler

#31
بَابٌ

ثُمَّ إِنَّ الْجَهْمِيَّ ادَّعَي أَمْرًا آخَرَ.

فَقَالَ: إِنَّ اللّٰهَ يَقُولُ:

﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ.﴾ [الفرقان: ٥٩؛ السجدة: ٤]

فَزَعَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ، أَوْ فِيمَا بَيْنَهُمَا. فَشَبَّهَ عَلَى النَّاسِ، وَلَبَّسَ عَلَيْهِمْ.

فَقُلْنَا لَهُمْ: أَلَيْسَ إِنَّمَا أَوْقَعَ اللّٰهُ عَزَّ وَجَلَّ الْخَلْقَ وَالْمَخْلُوقَ عَلَى مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا؟

فَقَالُوا: نَعَمْ.

فَقُلْنَا: هَلْ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ شَيْءٌ مَخْلُوقٌ؟

قَالُوا: نَعَمْ.

فَقُلْنَا: فَإِنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ مَا فَوْقَ السَّمَاوَاتِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمَخْلُوقَةِ، وَقَدْ عَرَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ: اَلْكُرْسِيَّ، وَالْعَرْشَ، وَاللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ، وَالْحُجُبَ، وَأَشْيَاءَ كَثِيرَةً، وَلَمْ يُسَمِّهَا وَلَمْ يَجْعَلْهَا مَعَ الْأَشْيَاءِ الْمَخْلُوقَةِ،

وَإِنَّمَا وَقَعَ الْخَبَرُ مِنَ اللّٰهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا.

وَقُلْنَا فِيمَا ادَّعَوْا أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ أَوْ فِيمَا بَيْنَهُمَا.

فَقُلْنَا: إِنَّ اللّٰهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ:

﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ.﴾ [الحجر: ٨٥]،

فَالَّذِي خَلَقَ بِهِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَدْ كَانَ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَالْحَقُّ الَّذِي خَلَقَ بِهِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ هُوَ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ اللّٰهَ تَعَالَى يَقُولُ الْحَقَّ،

قَالَ:

﴿وَالْحَقَّ أَقُولُ.﴾ [ص: ٨٤]،

﴿وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ.﴾ [الأنعام: ٧٣].

فَالْحَقُّ الَّذِي خَلَقَ بِهِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَدْ كَانَ قَبْلَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَالْحَقُّ قَوْلُهُ، وَلَيْسَ قَوْلُهُ مَخْلُوقًا.
#32
بَابٌ

ثُمَّ إِنَّ الْجَهْمِيَّ ادَّعَى أَمْرًا آخَرَ،

فَقَالَ: أَنَا اَجِدُ آيَةً فِي كِتَابِ اللّٰهِ تَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ!.

فَقُلْنَا: أَيُّ آيَةٍ؟

فَقَالَ: قَوْلُ اللّٰهِ تَعَالَى:

﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّٰهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ.﴾ [النساء: ١٧١]،

وَعِيسَى مَخْلُوقٌ.

فَقُلْنَا لَهُ: إِنَّ اللّٰهَ مَنَعَكَ الْفَهْمَ فِي الْقُرْآنِ؛ عِيسَى تَجْرِي عَلَيْهِ أَلْفَاظٌ لَا تَجْرِي عَلَى الْقُرْآنِ، لِأَنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ تَسْمِيَةُ: مَوْلُودٍ، وَطِفْلٍ، وصَبِيٍّ، وَغُلَامٍ، يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ، وَهُوَ مُخَاطَبٌ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، يَجْرِي عَلَيْهِ الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ. ثُمَّ هُوَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، فَلَا يَحِلُّ لَنَا أَنْ نَقُولَ فِي الْقُرْآنِ مَا نَقُولُ فِي عِيسَى.

فَهَلْ سَمِعْتُمُ اللّٰهُ يَقُولُ فِي الْقُرْآنِ مَا قَالَ فِي عِيسَى؟! وَلٰكِنَّ الْمَعْنَى فِي قَوْلِ اللّٰهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ:

﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّٰهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ.﴾ [النساء: ١٧١]

فَالْكَلِمَةُ الَّتِي أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ حِينَ قَالَ لَهُ: "كُنْ". فَكَانَ عِيسَى "بِكُنْ"، وَلَيْسَ عِيسَى هُوَ "الْكُنْ"، وَلٰكِنْ بـِ"ـالْكُنْ" كَانَ، فَـ"ـالْكُنْ" مِنْ اللّٰهِ قَوْلٌ، وَلَيْسَ "الْكُنْ" مَخْلُوقًا.

وَكَذَبَتِ النَّصَارَى والْجَهْمِيَّةُ عَلَى اللّٰهِ تَعَالَى فِي أَمْرِ عِيسَى؛ وَذٰلِكَ أَنَّ الْجَهْمِيَّةَ قَالُوا: عِيسَى رُوحُ اللّٰهِ وَكَلِمَتُهُ إِلَّا أَنَّ كَلِمَتَهُ مَخْلُوقَةٌ. وَقَالَتِ النَّصَارَى: عِيسَى رُوحُ اللّٰهِ مِنْ ذَاتِ اللّٰهِ، وَكَلِمَةُ اللّٰهِ مِنْ ذَاتِ اللّٰهِ، كَمَا يُقَالُ: إِنَّ هٰذِهِ الْخِرْقَةَ مِنْ هٰذَا الثَّوْبِ.

وَقُلْنَا نَحْنُ: إِنَّ عِيسَى بِالْكَلِمَةِ كَانَ، وَلَيْسَ عِيسَى هُوَ الْكَلِمَةَ؛

وَأَمَّا قَوْلُ اللّٰهِ:

﴿وَرُوحٌ مِنْهُ.﴾ [النساء: ١٧١]:

يَقُولُ: مِنْ أَمْرِهِ كَانَ الرُّوحُ فِيهِ، كَقَوْلِهِ:

﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ.﴾ [الجاثية: ١٣]،

يَقُولُ: "مِنْ أَمْرِهِ". وَتَفْسِيرُ "رُوحِ اللّٰهِ" إِنَّمَا مَعْنَاهَا: أَنَّهَا رُوحٌ بِكَلِمَةِ اللّٰهِ، خَلَقَهَا اللّٰهُ، كَمَا يُقَالُ: عَبْدُ اللّٰهِ، وَسَمَاءُ اللّٰهِ، وَأَرْضُ اللّٰهِ.
#33
بَابٌ آخَرُ

قَالَ أَحْمَدُ رَضِيَ اللّٰهُ عَنْهُ:

ثُمَّ إِنَّ الْجَهْمِيَّ ادَّعَى أَمْرًا آخَرَ،

فَقَالَ: أَنَا أَجِدُ آيَةً فِي كِتَابِ اللّٰهِ تَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ!

فَقُلْنَا: فِي أَيِّ آيَةٍ؟

فَقَالَ: قَوْلُ اللّٰهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:

﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ.﴾ [الأنبياء: ٢].

فَزَعَمَ أَنَّ اللّٰهَ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ الْقُرْآنَ مُحْدَثٌ، وَكُلُّ مُحْدَثٍ مَخْلُوقٌ.

فَلَعَمْرِي! لَقَدْ شَبَّهَ عَلَى النَّاسِ بِهٰذَا، وَهِيَ آيَةٌ مِنَ الْمُتَشَابِهِ.

فَقُلْنَا فِي ذٰلِكَ قَوْلًا، وَاسْتَعَنَّا بِاللّٰهِ، وَنَظَرْنَا فِي كِتَابِ اللّٰهِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللّٰهِ.

قَالَ أَحْمَدُ رَضِيَ اللّٰهُ عَنْهُ: اِعْلَمْ أَنَّ الشَّيْئَيْنِ إِذَا اجْتَمَعَا فِي اسْمٍ يَجْمَعُهُمَا فَكَانَ أَحَدُهُمَا أَعْلَى مَنَ الْآخَرِ، ثُمَّ جَرَى عَلَيْهِمَا اسْمُ مَدْحٍ فَكَانَ أَعْلَاهُمَا أَوْلَى بِالْمَدْحِ وَأَغْلَبَ عَلَيْهِ، وَإِنْ جَرَى عَلَيْهِمَا اسْمُ ذَمِّ، أَوْ اسْمٌ دَنِيْءٌ فَأَدْنَاهُمَا أَوْلَى بِهِ.

وَمِنْ ذٰلِكَ قَوْلُ اللّٰهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ:

﴿إِنَّ اللّٰهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ.﴾ [البقرة: ١٤٣؛ الحج: ٦٥]،

وَ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللّٰهِ.﴾ [الإنسان: ٦].

فَإِذَا اجْتَمَعُوا فِي اسْمِ الْإِنْسَانِ وَاسْمِ الْعِبَادِ، فَالْمَعْنِيُّ فِي قَوْلِ اللّٰهِ تَعَالَى:

﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللّٰهِ.﴾ [الإنسان: ٦]، يَعْنِي: اَلْأَبْرَارُ دُونَ الْفُجَّارِ، لِقَوْلِهِ إِذَا انْفَرَدَ الْأَبْرَارُ:

﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ.﴾ [الانفطار: ١٣؛ المطففين: ٢٢]،

وَإِذَا انْفَرَدَ الْكُفَّارُ:

﴿وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ.﴾ [الانفطار: ١٤].

وَقَوْلُهُ:

﴿إِنَّ اللّٰهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ.﴾ [البقرة: ١٤٣؛ الحج: ٦٥]،

فَالْمُؤْمِنُ أَوْلَى بِهِ، وَإِنِ اجْتَمَعَا فِي اسْمِ النَّاسِ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا انْفَرَدَ أُعْطِيَ الْمِدْحَةَ، لِقَوْلِ اللّٰهِ تَعَالَى:

﴿وَإِنَّ اللّٰهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ.﴾ [الحديد: ٩]،

﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا.﴾ [الأحزاب: ٤٣].

وَإِذَا انْفَرَدَ الْكُفَّارُ جَرَى عَلَيْهِمُ اسْمُ الذَّمِّ فِي قَوْلِهِ:

﴿أَلَا لَعْنَةُ اللّٰهِ عَلَى الظَّالِمِينَ.﴾ [هود: ١٨]،

وَقَوْلِهِ:

﴿أَنْ سَخِطَ اللّٰهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ.﴾ [المائدة: ٨٠]؛

فَهٰؤُلَاءِ لَا يَدْخُلُونَ فِي الرَّحْمَةِ.

وَفِي قَوْلِهِ:

﴿وَلَوْ بَسَطَ اللّٰهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ.﴾ [الشورى: ٢٧]،

فَاجْتَمَعَ الْكُفَّارُ وَالْمُؤْمِنُونَ فِي اسْمِ الْعِبَادِ، فَالْكُفَّارُ أَوْلَى بِالْبَغْيِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ انْفَرَدُوا وَمُدِحُوا فِيمَا بَسَطَ اللّٰهُ لَهُمْ مِنَ الرِّزْقِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:

﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا.﴾ [الفرقان: ٦٧].

وَقَوْلُهُ:

﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ.﴾ [البقرة: ٣].

وَقَدْ بَسَطَ اللّٰهُ الرِّزْقَ لِدَاوُدَ، وسُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَلِذِي الْقَرْنَيْنِ، وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللّٰهُ عَنْهُمْ وَمَنْ كَانَ عَلَى مِثَالِهِمْ مِمَّنْ بَسَطَ اللّٰهُ لَهُ فَلَمْ يَبْغِ.

وَإِذَا انْفَرَدَ اسْمُ الْكَافِرِ وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ الْبَغْيِ فِي قَوْلِهِ لِقَارُونَ:

﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ.﴾ [القصص: ٧٦]،

وَنَمْرُودَ بْنِ كَنْعَانَ حِينَ آتَاهُ اللّٰهُ الْمُلْكَ فَحَاجَّ فِي رَبِّهِ؛ وَفِرْعَوْنَ حِينَ قَالَ مُوسَى:

﴿رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.﴾ [يونس: ٨٨] اَلْآيَةَ.

فَلَمَّا اجْتَمَعُوا فِي اسْمٍ وَاحِدٍ فَجَرَى عَلَيْهِمُ اسْمُ الْبَغْيِ كَانَ الْكَافِرُ أَوْلَى بِهِ، كَمَا أَنَّ الْمُؤْمِنَ أَوْلَى بِالْمِدْحَةِ.

فَلَمَّا قَالَ اللّٰهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:

﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ.﴾ [الأنبياء: ٢]،

فَجَمَعَ بَيْنَ ذِكْرَيْنِ: ذِكْرِ اللّٰهِ، وَذِكْرِ نَبِيِّهِ.

فَأَمَّا ذِكْرُ اللّٰهِ إِذَا انْفَرَدَ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ اسْمُ الْحَدَثِ، أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى قَوْلِهِ:

﴿وَلَذِكْرُ اللّٰهِ أَكْبَرُ.﴾ [العنكبوت: ٤٥]،

﴿وَهٰذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ.﴾ [الأنبياء: ٥٠].

وَإِذَا انْفَرَدَ ذِكْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللّٰهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَرَى عَلَيْهِ اسْمُ الْحَدَثِ، أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى قَوْلِهِ:

﴿وَاللّٰهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ.﴾ [الصافات: ٩٦].

فَذِكْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللّٰهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ عَمَلٌ، وَاللّٰهُ لَهُ خَالِقٌ وَمُحْدِثٌ، وَالدِّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ ذِكْرَيْنِ هُوَ قَوْلُهُ: ﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ.﴾ [الأنبياء: ٢]

فَأَوْقَعَ عَلَيْهِ الْحَدَثَ عِنْدَ إِتْيَانِهِ إِيَّانَا، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَأْتِينَا بِالْأَنْبَاءِ إِلَّا مُبَلِّغٌ وَمُذَكِّرٌ.

وَقَالَ تَعَالَى:

﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ.﴾ [الذاريات: ٥٥]،

﴿فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى.﴾ [الأعلى: ٩]،

﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ.﴾ [الغاشية: ٢١].

فَلَمَّا اجْتَمَعُوا فِي اسْمِ الذِّكْرِ جَرَى عَلَيْهِمُ اسْمُ الْحَدَثِ؛ وَكانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللّٰهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا انْفَرَدَ وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ الْخَلْقِ، وَكَانَ أَوْلَى بِالْحَدَثِ مِنْ ذِكْرِ اللّٰهِ عَزَّ وَجَلَّ الَّذِي إِذَا انْفَرَدَ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ اسْمُ خَلْقٍ وَلَا حَدَثٍ، فَوَجَدْنَا دِلَالَةً مِنْ قَوْلِ اللّٰهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:

﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ.﴾ [الأنبياء: ٢]

إِنَّمَا هُوَ مُحْدَثٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللّٰهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللّٰهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَعْلَمُ فَعَلَّمَهُ اللّٰهُ تَعَالَى، فَلَمَّا عَلَّمَهُ اللّٰهُ تَعَالَى كَانَ ذٰلِكَ مُحَدَثًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللّٰهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
#34
بَابٌ

قَالَ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللّٰهُ: وَقَدْ سَأَلْتُ الْجَهْمِيَّةَ: أَلَيْسَ إِنَّمَا قَالَ اللّٰهُ:

﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللّٰهِ.﴾ [البقرة: ١٣٦]،

﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا.﴾ [البقرة: ٨٣]،

﴿وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ.﴾ [العنكبوت: ٤٦]،

﴿وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا.﴾ [الأحزاب: ٧٠]،

﴿فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ.﴾ [آل عمران: ٦٤]،

وَقَالَ:

﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ.﴾ [الكهف: ٢٩]

وَقَالَ:

﴿وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ.﴾ [الزخرف: ٨٩].

وَلَمْ نَسْمَعِ اللّٰهَ يَقُولُ: "قُولُوا إِنَّ كَلَامِي خَلْقٌ".

وَقَالَ:

﴿وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ.﴾ [النساء: ١٧١]،

وَقَالَ:

﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا.﴾ [النساء: ٩٤]،

وَقَالَ:

﴿لَا تَقُولُوا رَاعِنَا.﴾ [البقرة: ١٠٤]،

﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ أَمْوَاتٌ.﴾ [البقرة: ١٥٤]،

﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَدًا ۞ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللّٰهُ.﴾ [الكهف: ٢٣-٢٤]،

﴿فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ.﴾ [الإسراء: ٢٣]،

﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ.﴾ [الإسراء: ٣٦]،

﴿وَلَا تَدْعُ مَعَ اللّٰهِ إِلٰهًا آخَرَ.﴾ [القصص: ٨٨]،

﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ.﴾ [الأنعام: ١٥١]،

﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ.﴾ [الإسراء: ٢٩]،

﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ.﴾ [الأنعام: ١٥١؛ الإسراء: ٣٣]،

﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ.﴾ [الأنعام: ١٥٢]،

﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا.﴾ [الإسراء: ٣٧؛ لقمان: ١٨].

وَمِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ،

فَهٰذَا مَا نَهَى اللّٰهُ عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَقُلْ لَنَا: "لَا تَقُولُوا إِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامِي".

وَقَدْ سَمَّتِ الْمَلَائِكَةُ كَلَامَ اللّٰهِ كَلَامًا، وَلَمْ تُسَمِّهِ خَلْقًا؛ قَوْلُهُ:

﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ.﴾ [سبأ: ٢٣]،

وَذٰلِكَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمْ يَسْمَعُوا صَوْتَ الْوَحْيِ مَا بَيْنَ عِيسَى، وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللّٰهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ، وَبَيْنَهُمَا كَذَا وَكَذَا سَنَةً.

فَلَمَّا أَوْحَى اللّٰهُ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللّٰهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَتِ الْمَلَائِكَةُ صَوْتَ الْوَحْيِ كَوَقْعِ الْحَدِيدِ عَلَى الصَّفَا، فَظَنُّوا أَنَّهُ أَمْرٌ مِنْ أَمْرِ السَّاعَةِ فَفَزِعُوا وَخَرُّوا لِوُجُوهِهِمْ سُجَّدًا،

فَذٰلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:

﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ.﴾ [سبأ: ٢٣]

يَقُولُ: حَتَّى إِذَا انْجَلَى الْفَزَعُ عَنْ قُلُوبِهِمْ رَفَعَ الْمَلَائِكَةُ رُؤُوسَهُمْ، فَسَأَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَقَالُوا: ﴿مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ.﴾ [سبأ: ٢٣]، وَلَمْ يَقُولُوا: "مَاذَا خَلَقَ رَبُّكُمْ؟"؛ فَفِي هٰذَا بَيَانٌ لِمَنْ أَرَادَ اللّٰهُ هُدَاهُ.
#35
بَابٌ

ثُمَّ إِنَّ الْجَهْمِيَّ ادَّعَى أَمْرًا آخَرَ.

فَقَالَ: أَخْبِرُونَا عَنِ الْقُرْآنِ، هُوَ شَيْءٌ؟

قُلْنَا: نَعَمْ هُوَ شَيْءٌ.

فَقَالَ: إِنَّ اللّٰهَ خَالِقُ كُلَّ شَيْءٍ، فَلِمَ لَا يَكُونُ الْقُرْآنُ مَعَ الْأَشْيَاءِ الْمَخْلُوقَةِ، وَقَدْ أَقْرَرْتُمْ أَنَّهُ شَيْءٌ؟

فَلَعَمْرِي لَقَدِ ادَّعَى أَمْرًا أَمْكَنَهُ فِيهِ الدَّعْوَى، وَلَبَّسَ عَلَى النَّاسِ بِمَا ادَّعَى.

فَقُلْنَا: إِنَّ اللّٰهَ لَمْ يُسَمِّ كَلَامَهُ فِي الْقُرْآنِ شَيْئًا، إِنَّمَا سَمَّاهُ شَيْئًا الَّذِي كَانَ بِقَوْلِهِ. أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:

﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.﴾ [النحل: ٤٠]؟

فَالشَّيْءُ لَيْسَ هُوَ قَوْلُهُ، إِنَّمَا الشَّيْءُ الَّذِي كَانَ بِقَوْلِهِ.

وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى:

﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا.﴾ [يس: ٨٢]،

فَالشَّيْءُ لَيْسَ هُوَ أَمْرَهُ إِنَّمَا الشَّيْءُ الَّذِي كَانَ بِأَمْرِهِ.

وَمِنَ الْأَعْلَامِ وَالدِّلَالَاتِ أَنَّهُ لَا يَعْنِي كَلَامَهُ مَعَ الْأَشْيَاءِ الْمَخْلُوقَةِ، قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الرِّيحِ الَّتِي أَرْسَلَهَا عَلَى عَادٍ ﴿مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ.﴾ [الذاريات: ٤٢]، وَقَالَ:

﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا.﴾ [الأحقاف: ٢٥]،

وَقَدْ أَتَتْ تِلْكَ الرِّيحُ عَلَى أَشْيَاءَ لَمْ تُدَمِّرْهَا: مَنَازِلِهِمْ، وَمَسَاكِنِهِمْ، وَالْجِبَالِ الَّتِي بِحَضْرَتِهِمْ، فَأَتَتْ عَلَيْهَا تِلْكَ الرِّيحُ وَلَمْ تُدَمِّرْهَا، وَقَدْ قَالَ:

﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا.﴾ [الأحقاف: ٢٥].

فَكَذٰلِكَ إِذَا قَالَ:

﴿اَللّٰهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ.﴾ [الرعد: ١٦؛ الزمر: ٦٢]،

لَا يَعْنِي نَفْسَهُ، وَلَا عِلْمَهُ، وَلَا كَلَامَهُ مَعَ الْأَشْيَاءِ الْمَخْلُوقَةِ.

وَقَالَ لِمَلِكَةِ سَبَأٍ:

﴿وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.﴾ [النمل: ٢٣]،

وَقَدْ كَانَ مُلْكُ سُلَيْمَانَ شَيْئًا، وَلَمْ تُؤْتَهُ.

فَكَذٰلِكَ إِذَا قَالَ:

﴿خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ.﴾ [الرعد: ١٦؛ الزمر: ٦٢]،

لَا يَعْنِي كَلَامَهُ مَعَ الْأَشْيَاءِ الْمَخْلُوقَةِ.

وَقَالَ اللّٰهُ لِمُوسَى:

﴿وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي.﴾ [طه: ٤١]،

وَقَالَ:

﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللّٰهُ نَفْسَهُ.﴾ [آل عمران: ٢٨، ٣٠]،

وَقَالَ:

﴿كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ.﴾ [الأنعام: ١٢]،

وَقَالَ عِيسَي:

﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ.﴾ [المائدة: ١١٦]،

وَقَالَ تَعَالَى:

﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ.﴾ [آل عمران: ١٨٥]،

فَقَدْ عَرَفَ مَنْ عَقَلَ عَنِ اللّٰهِ أَنَّهُ لَا يَعْنِي نَفْسَهُ مَعَ الْأَنْفُسِ الَّتِي تَذُوقُ الْمَوْتَ، وَقَدْ ذَكَرَ اللّٰهُ عَزَّ وَجَلَّ كُلَّ نَفْسٍ.

فَكَذٰلِكَ إِذَا قَالَ: ﴿خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ.﴾ [الرعد: ١٦؛ الزمر: ٦٢]، لَا يَعْنِي نَفْسَهُ، وَلَا عِلْمَهُ، وَلَا كَلَامَهُ مَعَ الْأَشْيَاءِ الْمَخْلُوقَةِ.

فَفِي هٰذَا دِلَالَةٌ وَبَيَانٌ لِمَنْ عَقَلَ عَنِ اللّٰهِ تَعَالَى.

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:

فَرَحِمَ اللّٰهُ مَنْ تَفَكَّرَ وَرَجَعَ عَنِ الْقَوْلِ الَّذِي يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَلَمْ يَقُلْ عَلَى اللّٰهِ إِلَّا الْحَقَّ، فَإِنَّ اللّٰهَ تَعَالَى قَدْ أَخَذَ مِيثَاقَ خَلْقِهِ فَقَالَ تَعَالَى:

﴿أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللّٰهِ إِلَّا الْحَقَّ.﴾ [الأعراف: ١٦٩]،

وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى:

﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللّٰهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللّٰهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ.﴾ [الأعراف: ٣٣]،

فَقَدْ حَرَّمَ اللّٰهُ أَنْ يُقَالَ عَلَيْهِ الْكَذِبَ. وَقَدْ قَالَ:

﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللّٰهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ.﴾ [الزمر: ٦٠]

أَعَاذَنَا اللّٰهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْ فِتَنِ الْمُضِلِّينَ.

وَقَدْ ذَكَرَ اللّٰهُ كَلَامَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَسَمَّاهُ كَلَامًا وَلَمْ يُسَمِّهِ خَلْقًا، قَوْلُهُ:

﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ.﴾ [البقرة: ٣٧]،

وَقَالَ:

﴿حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللّٰهِ.﴾ [التوبة: ٦]،

وَقَالَ:

﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللّٰهِ.﴾ [البقرة: ٧٥]،

وَقَالَ:

﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ.﴾ [الأعراف: ١٤٣]،

وَقَالَ:

﴿يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي.﴾ [الأعراف: ١٤٤]،

وَقَالَ:

﴿وَكَلَّمَ اللّٰهُ مُوسَى تَكْلِيمًا.﴾ [النساء: ١٦٤]،

وَقَالَ:

﴿فَآمِنُوا بِاللّٰهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَكَلِمَاتِهِ.﴾ [الأعراف: ١٥٨]

فَأَخْبَرَ اللّٰهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللّٰهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَبِكَلِمَاتِ اللّٰهِ.

وَقَالَ:

﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللّٰهِ.﴾ [الفتح: ١٥]،

وَقَالَ:

﴿لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي.﴾ [الكهف: ١٠٩]،

وَقَالَ:

﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللّٰهِ.﴾ [التوبة: ٦]،

 وَلَمْ يَقُلْ: "حَتَّى يَسْمَعَ خَلْقَ اللّٰهِ".

فَهٰذَا مَنْصُوصٌ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَفْسِيرٍ، هُوَ بَيِّنٌ بِحَمْدِ اللّٰهِ تَعَالَى.
#36
بَابُ
بَيَانِ مَا أَبْطَلَ اللّٰهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ إِلَّا وَحْيًا وَلَيْسَ بِمَخْلُوقٍ

قَالَ: قَوْلُهُ:

﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ۞ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ۞ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ۞ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى.﴾ [النجم: ١-٤].

وَذٰلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا قَالُوا: إِنَّ الْقُرْآنَ شِعْرٌ.

وَقَالُوا: ﴿أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ.﴾ [الأنعام: ٢٥].

وَقَالُوا: ﴿أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ.﴾ [الأنبياء: ٥].

وَقَالُوا: تَقَوَّلَهُ مُحَمَّدٌ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ.

وَقَالُوا: تَعَلَّمَهُ مِنْ غَيْرِهِ.

فَأَقْسَمَ اللّٰهُ بِـ﴿ـالنَّجْمِ إِذَا هَوَى.﴾ [النجم: ١] يَعْنِي: اَلْقُرْآنَ إِذَا نَزَلَ.

فَقَالَ:

﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ۞ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ.﴾ [النجم: ١-٢]

يَعْنِي: مُحَمَّدًا، ﴿وَمَا غَوَى ۞ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى.﴾ [النجم: ٢-٣].

يَقُولُ: إِنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَقُلْ هٰذَا الْقُرْآنَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، فَقَالَ: ﴿إِنْ هُوَ.﴾ [النجم: ٤] أَيْ: مَا هُوَ، يَعْنِي الْقُرْآنَ ﴿إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى.﴾ [النجم: ٤].

فَأَبْطَلَ اللّٰهُ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ شَيْئًا غَيْرَ الْوَحْيِ؛ لِقَوْلِهِ: ﴿إِنْ هُوَ﴾ [النجم: ٤]، يَقُولُ: مَا هُوَ ﴿إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى.﴾ [النجم: ٤].

ثُمَّ قَالَ: ﴿عَلَّمَهُ﴾ [النجم: ٥]، يَعْنِي: عَلَّمَ جِبْرِيلُ مُحَمَّدًا الْقُرْآنَ وَهُوَ: ﴿شَدِيدُ الْقُوَى ۞ ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى.﴾ [النجم: ٥-٦]، إِلَى أَنْ قَالَ: ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى.﴾ [النجم: ١٠] فَسَمَّى اللّٰهُ الْقُرْآنَ وَحْيًا وَلَمْ يُسَمِّهِ خَلْقًا.
#37
بَابُ
بَيَانِ مَا فَصَلَ اللّٰهُ بَيْنَ قَوْلِهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ

وَذٰلِكَ أَنَّ اللّٰهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِذَا سَمَّى الشَّيْءَ الْوَاحِدَ بِاسْمَيْنِ، أَوْ ثَلَاثَةِ أَسَامِي فَهُوَ مُرْسَلٌ غَيْرُ مُنْفَصِلٍ، وَإِذَا سَمَّى شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لَا يَدَعُهُمَا مُرْسَلَيْنِ حَتَّى يَفْصِلَ بَيْنَهُمَا. مِنْ ذٰلِكَ قَوْلُهُ:

﴿يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا.﴾ [يوسف: ٧٨]،

فَهٰذَا شَيْءٌ وَاحِدٌ سَمَّاهُ بِثَلَاثَةِ أَسَامٍ وَهُوَ مُرْسَلٌ، وَلَمْ يَقُلْ: إِنَّ لَهُ أَبًا، وَشَيْخًا، وَكَبِيرًا. وَقَالَ:

﴿عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ.﴾ [التحريم: ٥]،

ثُمَّ قَالَ: ﴿ثَيِّبَاتٍ.﴾ [التحريم: ٥]، فَهٰذَا اسْمُ شَيْءٍ وَاحِدٍ فَهُوَ مُرْسَلٌ. فَلَمَّا ذَكَرَ شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَصَلَ بَيْنَهُمَا، فَذٰلِكَ قَوْلُهُ:

﴿ثَيِّبَاتٍ.﴾ [التحريم: ٥]،

ثُمَّ قَالَ:

﴿وَأَبْكَارًا.﴾ [التحريم: ٥].

فَلَمَّا كَانَتِ الْبِكْرُ غَيْرَ الثَّيِّبِ لَمْ يَدَعْهُ مُرْسَلًا حَتَّى فَصَلَ بَيْنَهُمَا، فَذٰلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَأَبْكَارًا.﴾. وَقَالَ: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى.﴾، [فاطر: ١٩] ثُمَّ قَالَ: ﴿وَالْبَصِيرُ.﴾ [فاطر: ١٩]،

فَلَمَّا كَانَ الْبَصِيرُ غَيْرَ الْأَعْمَى فَصَلَ بَيْنَهُمَا،

ثُمَّ قَالَ:

﴿وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ ۞ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ.﴾ [فاطر: ٢٠-٢١]،

فَلَمَّا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هٰذَا الشَّيْءِ غَيْرَ الشَّيْءِ الْآخَرِ فَصَلَ بَيْنَهُمَا.

ثُمَّ قَالَ:

﴿اَلْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ.﴾ [الحشر: ٢٣]،

﴿اَلْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ.﴾ [الحشر: ٢٤]

فَهٰذَا كُلُّهُ اسْمُ شَيْءٍ وَاحِدٍ فَهُوَ مُرْسَلٌ لَيْسَ بِمُنْفَصِلٍ.

وَكَذٰلِكَ إِذَا قَالَ اللّٰهُ ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ﴾ [الأعراف: ٥٤]

ثُمَّ قَالَ:

﴿وَالْأَمْرُ﴾ لِأَنَّ الْخَلْقَ غَيْرُ الْأَمْرِ، فَهُوَ مُنْفَصِلٌ.
#38
بَابٌ

ثُمَّ إِنَّ الْجَهْمِيَّ ادَّعَى أَمْرًا آخَرَ وَهُوَ مِنَ الْمُحَالِ؟!

فَقَالَ: أَخْبِرُونَا عَنِ الْقُرْآنِ، أَهُوَ اللّٰهُ تَعَالَى، أَوْ غَيْرُ اللّٰهِ؟

فَادَّعَى فِي الْقُرْآنِ أَمْرًا يُوهِمُ النَّاسَ. فَإِذَا سُئِلَ الْجَاهِلُ عَنِ الْقُرْآنِ "هُوَ اللّٰهُ أَوْ غَيْرُ اللّٰهِ؟"، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يَقُولَ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ.

فَإِنْ قَالَ: هُوَ اللّٰهُ؟!

قَالَ لَهُ الْجَهْمِيُّ: كَفَرْتَ.

وَإِنْ قَالَ: هُوَ غَيْرُ اللّٰهِ.

قَالَ: صَدَقْتَ. فَلِمَ لَا يَكُونُ غَيْرُ اللّٰهِ مَخْلُوقًا؟

فَيَقَعُ فِي نَفْسِ الْجَاهِلِ مِنْ ذٰلِكَ مَا يَمِيلُ بِهِ إِلَى قَوْلِ الْجَهْمِيِّ.

وَهٰذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنَ الْجَهْمِيِّ هِيَ مِنَ المَغَاليطِ.

فَالْجَوَابُ لِلْجَهْمِيِّ إِذَا سَأَلَ فَقَالَ: أَخْبِرُونَا عَنِ الْقُرْآنِ، هُوَ اللّٰهُ أَوْ غَيْرُ اللّٰهِ؟

قِيلَ لَهُ: إِنَّ اللّٰهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَمْ يَقُلْ فِي الْقُرْآنِ "إِنَّ الْقُرْآنَ أَنَا"، وَلَمْ يَقُلْ "إِنَّ الْقُرْآنَ غَيْرِي"، وَقَالَ: "هُوَ كَلَامِي". فَسَمَّيْنَاهُ بِاسْمٍ سَمَّاهُ اللّٰهُ بِهِ،

فَقُلْنَا: هُوَ كَلَامُ اللّٰهِ تَعَالَى، فَمَنْ سَمَّى الْقُرْآنَ بِمَا سَمَّاهُ اللّٰهُ بِهِ كَانَ مِنَ الْمُهْتَدِينَ، وَمَنْ سَمَّاهُ بِاسْمٍ غَيْرِهِ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ،

وَقَدْ فَصَلَ اللّٰهُ بَيْنَ قَوْلِهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ وَلَمْ يُسَمِّهِ قَوْلًا فَقَالَ:

﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ.﴾ [الأعراف: ٥٤]،

فَلَمَّا قَالَ: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ﴾ [الأعراف: ٥٤] لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مَخْلُوقٌ إِلَّا كَانَ دَاخِلًا فِي ذٰلِكَ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا لَيْسَ بِخَلْقٍ فَقَالَ: ﴿وَالْأَمْرُ﴾ [الأعراف: ٥٤]، فَأَمْرُهُ هُوَ قَوْلُهُ تَبَارَكَ اللّٰهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ خَلْقًا.

وَقَالَ تَعَالَى:

﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ۞ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ.﴾ [الدخان: ٣-٤]،

ثُمَّ قَالَ فِي اَلْقُرْآنِ هُوَ ﴿أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا.﴾ [الدخان: ٥]. وَقَالَ تَعَالَى:

﴿لِلّٰهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ.﴾ [الروم: ٤]،

يَقُولُ: لِلّٰهِ الْقَوْلُ مِنْ قَبْلِ الْخَلْقِ، وَمِنْ بَعْدِ الْخَلْقِ، وَاللّٰهُ يَخْلُقُ وَيَأْمُرُ، وَقَوْلُهُ غَيْرُ خَلْقِهِ. وَقَالَ:

﴿ذٰلِكَ أَمْرُ اللّٰهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ.﴾ [الطلاق: ٥]،

وَقَالَ:

﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ.﴾ [هود: ٤٠]،

يَقُولُ: قَدْ جَاءَ قَوْلُنَا فِي أَمْرِ الْقُرْآنِ.
#39
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللّٰهُ:

وَكَانَ الْجَهْمُ وَشِيعَتُهُ كَذٰلِكَ دَعَوُا النَّاسَ إِلَى الْمُتَشَابِهِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا بِكَلَامِهِمْ بَشَرًا كَثِيرًا.

فَكَانَ مِمَّا بَلَغَنَا مِنْ أَمْرِ الْجَهْمِ عَدُوِّ اللّٰهِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ مِنْ أَهْلِ التِّرْمِذِ، وَكَانَ صَاحِبَ خُصُومَاتٍ وَكَلَامٍ، وَكَانَ أَكْثَرُ كَلَامِهِ فِي اللّٰهِ، فَلَقِيَ أُنَاسًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، يُقَالُ لَهُمْ "اَلسُّمَنِيَّةُ"، فَعَرَفُوا الْجَهْمَ،

فَقَالُوا لَهُ: نُكَلِّمُكَ، فَإِنْ ظَهَرَتْ حُجَّتُنَا عَلَيْكَ دَخَلْتَ فِي دِينِنَا، وَإِنْ ظَهَرَتْ حُجَّتُكَ عَلَيْنَا دَخَلْنَا فِي دِينِكَ!

فَكَانَ مِمَّا كَلَّمُوا بِهِ الْجَهْمَ أَنْ قَالُوا لَهُ:

أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّ لَكَ إِلٰهًا؟

قَالَ الْجَهْمُ: نَعَمْ.

فَقَالُوا لَهُ: فَهَلْ رَأَيْتَ إِلٰهَكَ؟

قَالَ: لَا.

قَالُوا: فَهَلْ سَمِعْتَ كَلَامَهُ؟

قَالَ: لَا.

قَالُوا: فَشَمَمْتَ لَهُ رَائِحَةً؟

قَالَ: لَا.

قَالُوا: فَهَلْ وَجَدْتَ لَهُ حِسًّا؟

قَالَ: لَا.

قَالُوا: فَوَجَدْتَ لَهُ مَجَسًّا؟

قَالَ لَا.

قَالُوا: فَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهُ إِلٰهٌ؟!

قَالَ: فَتَحَيَّرَ الْجَهْمُ، فَلَمْ يَدْرِ مَنْ يَعْبُدُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا!!

ثُمَّ إِنَّهُ اسْتَدْرَكَ حُجَّةً مِثْلَ حُجَّةِ زَنَادِقَةِ النَّصَارَى، وَذٰلِكَ أَنَّ زَنَادِقَةَ النَّصَارَى يَزْعُمُونَ أَنَّ الرُّوحَ الَّتِي هِي فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هِيَ رُوحُ اللّٰهِ، مِنْ ذَاتِ اللّٰهِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْدِثَ أَمْرًا دَخَلَ فِي بَعْضِ خَلْقِهِ، فَتَكَلَّمَ عَلَى لِسَانِ خَلْقِهِ، فَيَأْمُرُ بِمَا شَاءَ، وَيَنْهَى عَمَّا شَاءَ، وَهُوَ رُوحٌ غَائِبٌ عَنِ الْأَبْصَارِ.

فَاسْتَدْرَكَ الْجَهْمُ حُجَّةً مِثْلَ هٰذِهِ الْحُجَّةِ؛

فَقَالَ لِلسُّمَنِيِّ: أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّ فِيكَ رُوحًا؟

قَالَ: نَعَمْ.

فَقَالَ: فَهَلْ رَأَيْتَ رُوحَكَ؟

قَالَ: لَا.

قَالَ: فَهَلْ سَمِعْتَ كَلَامَهُ؟

قَالَ: لَا.

قَالَ: فَوَجَدْتَ لَهُ حِسًّا أَوْ مَجَسًّا؟

قَالَ: لَا.

قَالَ: فَكَذٰلِكَ اللّٰهُ لَا يُرَى لَهُ وَجْهٌ، وَلَا يُسْمَعُ لَهُ صَوْتٌ، وَلَا يُشَمُّ لَهُ رَائِحَةٌ، وَهُوَ غَائِبٌ عَنِ الْأَبْصَارِ، وَلَا يَكُونُ فِي مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ!.

وَوَجَدَ ثَلَاثَ آيَاتٍ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمُتَشَابِهِ:

قَوْلَهُ تَعَالَى:

﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ.﴾ [الشورى: ١١]،

وَقَوْلَهُ:

﴿وَهُوَ اللّٰهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ.﴾ [الأنعام: ٣]،

وَقَوْلَهُ:

﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ.﴾ [الأنعام: ١٠٣].

فَبَنَى أَصْلَ كَلَامِهِ كُلِّهِ عَلَى هٰؤُلَاءِ الْآيَاتِ، وَتَأَوَّلَ الْقُرْآنَ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ، وَكَذَّبَ بِأَحَادِيثِ رَسُولِ اللّٰهِ صَلَّى اللّٰهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَزَعَمَ أَنَّ مَنْ وَصَفَ مِنَ اللّٰهِ شَيْئًا مِمَّا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ، أَوْ حَدَّثَ بِهِ عَنْهُ رَسُولُهُ صَلَّى اللّٰهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ كَافِرًا وَكَانَ مِنَ الْمُشَبِّهَةِ. فَأَضَلَّ بِكَلَامِهِ بَشَرًا كَثِيرًا، وَتَبِعَهُ عَلَى قَوْلِهِ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابِ عَمْرٍو بْنِ عُبَيْدٍ بِالْبَصْرَةِ، وَوَضَعَ دِينَ الْجَهْمِيَّةِ.

فَإِذَا سَأَلَهُمُ النَّاسُ عَنْ قَوْلِ اللّٰهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ.﴾ [الشورى: ١١] وَمَا تَفْسِيرُهُ؟

يَقُولُونَ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَهُوَ تَحْتَ الْأَرْضِينِ السَّبْعِ كَمَا هُوَ عَلَى الْعَرْشِ، وَلَا يَخْلُو مِنْهُ مَكَانٌ، وَلَا يَكُونُ فِي مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ وَلَا يَتَكَلَّمُ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ أَحَدٌ فِي الدُّنْيَا، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ أَحَدٌ فِي الْآخِرَةِ، وَلَا يُوصَفُ وَلَا يُعْرَفُ بِصِفَةٍ وَلَا يَفْعَلُ، وَلَا لَهُ غَايَةٌ وَلَا لَهُ مُنْتَهَى، وَلَا يُدْرَكُ بِعَقْلٍ، وَهُوَ وَجْهٌ كُلُّهُ، وَهُوَ عِلْمٌ كُلُّهُ، وَهُوَ سَمْعٌ كُلُّهُ، وَهُوَ بَصَرٌ كُلُّهُ، وَهُوَ نُورٌ كُلُّهُ، وَهُوَ قُدْرَةٌ كُلُّهُ

وَلَا يَكُونُ شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَلَا يُوصَفُ بِوَصْفَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَلَيْسَ لَهُ أَعْلَى وَلَا أَسْفَلُ، وَلَا نَوَاحٍ وَلَا جَوَانِبَ، وَلَا يَمِينَ وَلَا شِمَالَ، وَلَا هُوَ ثَقِيلٌ وَلَا خَفِيفٌ، وَلَا لَهُ لَوْنٌ وَلَا لَهُ جِسْمٌ، وَلَيْسَ بِمَعْلُومٍ أَوْ مَعْقُولٍ، وَكُلَّ مَا خَطَرَ بِقَلْبِكَ أَنَّهُ شَيْءٌ تَعْرِفُهُ فَهُوَ عَلَى خِلَافِهِ!

قَالَ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللّٰهُ:

فَقُلْنَا هُوَ شَيْءٌ؟

فَقَالُوا: هُوَ شَيْءٌ لَا كَالْأَشْيَاءِ.

فَقُلْنَا: إِنَّ الشَّيْءَ الَّذِي لَا كَالْأَشْيَاءِ قَدْ عَرَفَ أَهْلُ الْعَقْلِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ.

فَعِنْدَ ذٰلِكَ، تَبَيَّنَ لِلنَّاسِ أَنَّهُمْ لَا يُثْبِتُونَ شَيْئًا، وَلٰكِنَّهُمْ يَدْفَعُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ الشُّنْعَةَ بِمَا يُقِرُّونَ مِنَ الْعَلَانِيَةِ.

فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: مَنْ تَعْبُدُونَ؟

قَالُوا: نَعْبُدُ مَنْ يُدَبِّرُ أَمْرَ هٰذَا الْخَلْقَ.

فَقُلْنَا: هٰذَا الَّذِي يُدَبِّرَ أَمْرَ هٰذَا الْخَلْقِ هُوَ مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ بِصِفَةٍ؟

قَالُوا: نَعَمْ.

قُلْنَا: قَدْ عَرَفَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّكُمْ لَا تُثْبِتُونَ شَيْئًا، وَإِنَّمَا تَدْفَعُونَ عَنْ أَنْفُسِكُمُ الشَّنْعَةَ بِمَا تُظْهِرُونَ.

وَقُلْنَا لَهُمْ: هٰذَا الَّذِي يُدَبِّرُ: هُوَ الَّذِي كَلَّمَ مُوسَى؟

قَالُوا: لَمْ يَتَكَلَّمْ وَلَا يُكَلَّمُ، لِأَنَّ الْكَلَامَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِجَارِحَةٍ، وَالْجَوَارِحُ عَنِ اللّٰهِ مَنْفِيَّةٌ.

فَإِذَا سَمِعَ الْجَاهِلُ قَوْلَهُمْ يَظُنُّ أَنَّهُمْ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ تَعْظِيمًا لِلّٰهِ سُبْحَانَهُ، وَلَا يَشْعُرُ أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَعُودُ قَوْلُهُمْ إِلَى فِرْيَةٍ فِي اللّٰهِ، وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَعُودُ قَوْلُهُمْ إِلَى ضَلَالَةٍ وَكُفْرٍ.

قَالَ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللّٰهُ:

فَمِمَّا يُسْأَلُ عَنْهُ الْجَهْمِيُّ يُقَالُ لَهُ: تَجِدُ فِي كِتَابِ اللّٰهِ آيَةً تُخْبِرُ عَنِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ؟!

فَلَا يَجِدُ.

فَيُقَالُ لَهُ: فَتَجِدُهُ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللّٰهِ صَلَّى اللّٰهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ؟!

فَلَا يَجِدُ.

فَيُقَالُ لَهُ: فَلِمَ قُلْتَ؟

فَسَيَقُولُ: مِنْ قَوْلِ اللّٰهِ تَعَالَى:

﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا.﴾ [الزخرف: ٣].

وَزَعَمَ أَنَّ "جَعَلَ" بِمَعْنَى "خَلَقَ"، فَكُلُّ مَجْعُولٍ هُوَ مَخْلُوقٌ، فَادَّعَى كَلِمَةً مِنَ الْكَلَامِ الْمُتَشَابِهِ، يَحْتَجُّ بِهَا مَنْ أَرَادَ أَنْ يُلْحِدَ فِي تَنْزِيلِهَا، وَيَبْتَغِي الْفِتْنَةَ فِي تَأْوِيلِهَا، وَذٰلِكَ أَنَّ "جَعَلَ" فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ عَلَى وَجْهَيْنِ: عَلَى مَعْنَى التَّسْمِيَةِ، وَعَلَى مَعْنَى فِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِهِمْ.

قَوْلُهُ تَعَالَى:

﴿اَلَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ.﴾ [الحجر: ٩١]،

قَالُوا: هُوَ شِعْرٌ، وَأَنْبَاءُ الْأَوَّلِينَ، وَأَضْغَاثُ أَحْلَامٍ، فَهٰذَا عَلَى مَعْنَى تَسْمِيَةٍ. وَقَالَ:

﴿وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمٰنِ إِنَاثًا.﴾ [الزخرف: ١٩]،

يَعْنِي أَنَّهُمْ سَمَّوْهُمْ إِنَاثًا.

ثُمَّ ذَكَرَ "جَعَلَ" عَلَى غَيْرِ مَعْنَى التَّسْمِيَةِ، فَقَالَ:

﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ.﴾ [البقرة: ١٩]،

فَهٰذَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى فِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِهِمْ، وَقَالَ:

﴿حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا.﴾ [الكهف: ٩٦]،

هٰذَا عَلَى مَعْنَى فَعَلَ، هٰذَا جَعْلُ الْمَخْلُوقِينَ. ثُمَّ ذَكَرَ "جَعَلَ" مِنَ اللّٰهِ عَلَى مَعْنَى "خَلَقَ"، وَ"جَعَلَ"عَلَى غَيْرِ مَعْنَى "خَلَقَ" وَالَّذِي قَالَ اللّٰهُ تَعَالَى "جَعَلَ"عَلَى مَعْنَى "خَلَقَ" لَا يَكُونُ إِلَّا خَلْقًا، وَلَا يَقُومُ إِلَّا مَقَامَ "خَلَقَ" لَا يَزُولُ عَنْهُ الْمَعْنَى،

فَإِذَا قَالَ تَعَالَى"جَعَلَ" عَلَى غَيْرِ مَعْنَى "خَلَقَ"، لَا يَكُونُ خَلَقًا، وَلَا يَقُومُ مَقَامَ "خَلَقَ"، وَلَا يَزُولُ عَنْهُ الْمَعْنَى.

فَمِمَّا قَالَ اللّٰهُ عَزَّ وَجَلَّ "جَعَلَ" عَلَى مَعْنَى "خَلَقَ" قَوْلُهُ:

﴿اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ.﴾ [الأنعام: ١]

يَعْنِي: وَخَلَقَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ. وَقَالَ:

﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ.﴾ [النحل: ٧٨؛ السجدة: ٩]،

يَقُولُ: وَخَلَقَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ. وَقَالَ:

﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ.﴾ [الإسراء: ١٢]،

يَقُولُ: وَخَلَقْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ. وَقَالَ:

﴿وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا.﴾ [نوح: ١٦]، وَقَالَ:

﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا.﴾ [الأعراف: ١٨٩]،

يَقُولُ: وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا، يَقُولُ خَلَقَ مِنْ آدَمَ حَوَّاءَ. قَالَ:

﴿وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ.﴾ [النمل: ٦١]،

يَقُولُ: وَخَلَقَ لَهَا رَوَاسِيَ.

وَمِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ، فَهٰذَا وَمَا كَانَ عَلَى مِثْلِهِ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى مَعْنَى "خَلَقَ".

ثُمَّ ذَكَرَ "جَعَلَ" عَلَى مَعْنَى غَيْرِ "خَلَقَ" قَوْلُهُ:

﴿مَا جَعَلَ اللّٰهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ.﴾ [المائدة: ١٠٣]،

لَا يَعْنِي "مَا خَلَقَ اللّٰهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ".

وَقَالَ اللّٰهُ تَعَالَى لِإِبْرَاهِيمَ:

﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا.﴾ [البقرة: ١٢٤]،

لَا يَعْنِي: "إِنِّي خَالِقُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا"، لِأَنَّ خَلْقَ إِبْرَاهِيمَ كَانَ مُتَقَدِّمًا.

وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ:

﴿رَبِّ اجْعَلْ هٰذَا الْبَلَدَ آمِنًا.﴾ [إبراهيم: ٣٥]،

وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ:

﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي.﴾ [إبراهيم: ٤٠]،

لَا يَعْنِي: "اُخْلُقْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ". وَقَالَ:

﴿يُرِيدُ اللّٰهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ.﴾ [آل عمران: ١٧٦]،

لَا يَعْنِي: "يُرِيدُ اللّٰهُ أَنْ لَا يَخْلُقَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ ".

وَقَالَ لِأُمِّ مُوسَى:

﴿إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ.﴾ [القصص: ٧]

لَا يَعْنِي: "خَالِقُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ"، لِأَنَّ اللّٰهَ تَعَالَى وَعَدَ أُمَّ مُوسَى أَنْ يَرُدَّهُ إِلَيْهَا، ثُمَّ يَجْعَلُهُ مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ مُرْسَلًا.

وَقَالَ:

﴿وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ.﴾ [الأنفال: ٣٧]،

لَا يَعْنِي: "فَيَخْلُقَهُ فِي جَهَنَّمَ".

قَالَ:

﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ.﴾ [القصص: ٥]،

لَا يَعْنِي: "وَنَخْلُقَهُمْ أَئِمَّةً وَنَخْلُقَهُمْ الْوَارِثِينَ"،

وَقَالَ:

﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا.﴾ [الأعراف: ١٤٣]،

لَا يَعْنِي: "خَلَقَهُ دَكًّا"، وَمِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. فَهٰذَا -وَمَا كَانَ عَلَى مِثَالِهِ- لَا يَكُونُ عَلَى مَعْنَى "خَلَقَ"، فَإِذَا قَالَ اللّٰهُ: "جَعَلَ" عَلَى مَعْنَى "خَلَقَ". وَقَالَ: "جَعَلَ" عَلَى غَيْرِ مَعْنَى "خَلَقَ"، فَبِأَيِّ حُجَّةٍ قَالَ الْجَهْمِيُّ "جَعَلَ" عَلَى مَعْنَى "خَلَقَ"؟

فَإِنْ رَدَّ الْجَهْمِيُّ "الْجَعْلَ" إِلَى الْمَعْنَى الَّذِي وَصَفَهُ اللّٰهُ فِيهِ وَإِلَّا كَانَ مِنَ الَّذِينَ

﴿يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللّٰهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ.﴾ [البقرة: ٧٥].

فَلَمَّا قَالَ اللّٰهُ عَزَّ وَجَلَّ:

﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا.﴾ [الزخرف: ٣]،

يَقُولُ: جَعَلَهُ عَرَبِيًّا، جَعَلَهُ "جَعْلًا" عَلَى مَعْنَى فِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِ اللّٰهِ تَعَالَى، عَلَى غَيْرِ مَعْنَى "خَلَقَ".

وَقَالَ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ:

﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ.﴾ [الزخرف: ٣]،

وَقَالَ:

﴿لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ۞ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ.﴾ [الشعراء: ١٩٤- ١٩٥]،

وَقَالَ:

﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ.﴾ [مريم: ٩٧؛ الدخان: ٥٨].

فَلَمَّا جَعَلَ اللّٰهُ الْقُرْآنَ عربيًّا، وَيَسَّرَهُ بِلِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللّٰهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ ذٰلِكَ فِعْلًا مِنْ أَفْعَالِ اللّٰهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، جَعَلَ بِهِ الْقُرْآنَ عربيًّا، وَلَيْسَ كَمَا زَعَمُوا مَعْنَاهُ: أَنْزَلْنَاهُ بِلِسَانِ الْعَرَبِ. وَقِيلَ: بَيَّنَّاهُ، يَعْنِي هٰذَا بَيَانٌ لِمَنْ أَرَادَ اللّٰهُ هُدَاهُ.
#40
بَابُ
بَيَانِ مَا ضَلَّتْ فِيهِ الزَّنَادِقَةُ مِنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ

قَالَ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللّٰهُ: فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ:

﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا.﴾ [النساء: ٥٦]:

قَالَتِ الزَّنَادِقَةُ: فَمَا بَالُ جُلُودِهِمُ الَّتِي عَصَتْ قَدِ احْتَرَقَتْ، وَأَبْدَلَهُمُ اللّٰهُ جُلُودًا غَيْرَهَا؟

فَلَا نَرَى إِلَّا أَنَّ اللّٰهَ يُعَذِّبُ جُلُودًا لَمْ تُذْنِبْ حِينَ يَقُولُ: ﴿بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا.﴾ [النساء: ٥٦].

فَشَكُّوا فِي الْقُرْآنِ، وَزَعَمُوا أَنَّهُ مُتَنَاقِضٌ.

فَقُلْتُ لَهُمْ: إِنَّ قَوْلَ اللّٰهِ عَزَّ وَجَلَّ ﴿بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا.﴾ [النساء: ٥٦] لَيْسَ مَعْنَاهُ جُلُودًا غَيْرَ جُلُودِهِمْ، وَإِنَّمَا مَعْنَى: ﴿بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا.﴾ [النساء: ٥٦] تَبْدِيلُهَا: تَجْدِيدُهَا. لِأَنَّ جُلُودَهُمْ إِذَا نَضِجَتْ جَدَّدَهَا اللّٰهُ، وَذٰلِكَ لِأَنَّ الْقُرْآنَ فِيهِ خَاصٌّ وَعَامٌّ، وَوُجُوهٌ كَثِيرَةٌ، وَخَوَاطِرُ يَعْلَمُهَا الْعُلَمَاءُ.

وَأَمَّا قَوْلُ اللّٰهِ عَزَّ وَجَلَّ:

﴿هٰذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ ۞ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ.﴾ [المرسلات: ٣٥، ٣٦] .

ثُمَّ قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى:

﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ.﴾ [الزمر: ٣١]

فَقَالُوا:

كَيْفَ يَكُونُ هٰذَا مِنَ الْكَلَامِ الْمُحْكَمِ؟ قَالَ: ﴿هٰذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ.﴾ [المرسلات: ٣٥]، ثُمَّ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ.﴾ [الزمر: ٣١]؟ !

فَزَعَمُوا أَنَّ هٰذَا الْكَلَامَ يَنْقُضُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَشَكُّوا فِي الْقُرْآنِ.

أَمَّا تَفْسِيرُ ﴿هٰذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ﴾ [المرسلات: ٣٥] اَلْآيَةَ: فَهٰذَا أَوَّلُ مَا تُبْعَثُ الْخَلَائِقُ عَلَى مِقْدَارِ سِتِّينَ سَنَةٍ لَا يَنْطِقُونَ، وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فِي الِاعْتِذَارِ فَيَعْتَذِرُونَ. ثُمَّ يُؤْذَنُ لَهُمْ فِي الْكَلَامِ فَيَتَكَلَّمُونَ،

فَذٰلِكَ قَوْلُهُ:

﴿رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا.﴾ [السجدة: ١٢] اَلْآيَةَ.

فَإِذَا أَذِنَ لَهُمْ فِي الْكَلَامِ فَتَكَلَّمُوا وَاخْتَصَمُوا فَذٰلِكَ قَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ.﴾ [الزمر: ٣١] عِنْدَ الْحِسَابِ وَإِعْطَاءِ الْمَظَالِمِ. ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ بَعْدَ ذٰلِكَ:

﴿لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ.﴾، أَيْ عِنْدِي ﴿وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ.﴾ [ق: ٢٨]، يَعْنِي: فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْعَذَابَ مَعَ هٰذَا الْقَوْلِ كَائِنٌ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:

﴿وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا.﴾ [الإسراء: ٩٧].

وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى:

﴿وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ.﴾ [الأعراف: ٥٠]،

﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ.﴾ [الأعراف: ٤٤].

فَقَالُوا: كَيْفَ يَكُونُ هٰذَا مِنَ الْكَلَامِ الْمُحْكَمِ؟ قَالَ: ﴿وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا.﴾ [الإسراء: ٩٧]

ثُمَّ يَقُولُ فِي مَوْضُوعٍ آخَرَ أَنَّهُ يُنَادِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا؟!

فَشَكُّوا فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ.

أَمَّا تَفْسِيرُ:

﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ.﴾ [الأعراف: ٤٤]،

﴿وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ.﴾ [الأعراف: ٥٠]:

فَإِنَّهُمْ أَوَّلُ مَا يَدْخُلُونَ النَّارَ يُكَلِّمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيُنَادُونَ:

﴿يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ.﴾ [الزخرف: ٧٧]،

وَيَقُولُونَ:

﴿رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ.﴾ [إبراهيم: ٤٤]

وَ:

﴿رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا.﴾ [المؤمنون: ١٠٦].

فَهُمْ يَتَكَلَّمُونَ حَتَّى يُقَالَ لَهُمْ:

﴿اِخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ.﴾ [المؤمنون: ١٠٨]،

صَارُوا عُمْيًا وَبُكْمًا وصُمًّا، وَيَنْقَطِعُ الْكَلَامُ وَيَبْقَى الزَّفِيرُ وَالشَّهِيقُ.

فَهٰذَا تَفْسِيرُ مَا شَكَّتْ فِيهِ الزَّنَادِقَةُ مِنْ قَوْلِ اللّٰهِ عَزَّ وَجَلَّ.

وَأَمَّا قَوْلُ اللّٰهِ عَزَّ وَجَلَّ:

﴿فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ.﴾ [المؤمنون: ١٠١]،

وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى:

﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ.﴾ [الصافات: ٥٠].

فَقَالُوا: كَيْفَ يَكُونُ هٰذَا مِنَ الْمُحْكَمِ؟... فَشَكُّوا فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ.

أَمَّا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:

﴿فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ.﴾ [المؤمنون: ١٠١]،

فَهٰذَا عِنْدَ النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ، إِذَا قَامُوا مِنَ الْقُبُورِ، لَا يَتَسَاءَلُونَ، وَلَا يَنْطِقُونَ فِي ذٰلِكَ الْمَوْطِنِ.

فَإِذَا حُوسِبُوا، وَدَخَلُوا الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، أَقَبْلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ؛ فَهٰذَا تَفْسِيرُ مَا شَكَّتْ فِيهِ الزَّنَادِقَةُ.

وَأَمَّا قَوْلُ اللّٰهِ عَزَّ وَجَلَّ:

﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ۞ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ.﴾ [المدثر: ٤٢-٤٣]. وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى:

﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ.﴾ [الماعون: ٤].

قَالُوا:

إِنَّ اللّٰهَ قَدْ ذَمَّ قَوْمًا كَانُوا يُصَلُّونَ فَقَالَ: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ.﴾ [الماعون: ٤]، وَقَدْ قَالَ فِي قَوْمٍ إِنَّهُمْ إِنَّمَا دَخَلُوا النَّارَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنَ الْمُصَلِّينَ!

فَشَكُّوا فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ، وَزَعَمُوا أَنَّهُ مُتَنَاقِضٌ.

قَالَ:

أَمَّا قَوْلُهُ:

﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ.﴾ [الماعون: ٤] عَنَى بِهِ الْمُنَافِقِينَ: ﴿اَلَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ.﴾ [الماعون: ٥]

حَتَّى يَذْهَبَ الْوَقْتُ

﴿اَلَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ.﴾ [الماعون: ٦]،

يَقُولُ: إِذَا رَأَوْهُمْ صَلُّوا، وَإِذَا لَمْ يَرَوْهُمْ لَمْ يُصَلُّوا.

 وَأَمَّا قَوْلُهُ:

﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ۞ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ.﴾ [المدثر: ٤٢-٤٣]،

 يَعْنِي مِنَ الْمُوَحِّدِينَ الْمُؤْمِنِينَ.

فَهٰذَا مَا شَكَّتْ فِيهِ الزَّنَادِقَةُ.

وَأَمَّا قَوْلُ اللّٰهِ عَزَّ وَجَلَّ:

﴿خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ.﴾ [فاطر: ١١].

ثُمَّ قَالَ:

﴿مِنْ طِينٍ لَازِبٍ.﴾ [الصافات: ١١].

ثُمَّ قَالَ:

﴿مِنْ سُلَالَةٍ.﴾ [المؤمنون: ١٢].

ثُمَّ قَالَ:

﴿مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ.﴾ [الحجر: ٢٦].

ثُمَّ قَالَ:

﴿مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ.﴾ [الرحمن: ١٤].

فَشَكُّوا فِي الْقُرْآنِ، وَقَالُوا:

هٰذَا لَا شَكَّ أَنَّهُ يَنْقُضُ بَعْضُهُ بَعْضًا.

فَهٰذَا بِدْءُ خَلْقِ آدَمَ،

خَلَقَهُ اللّٰهُ أَوَّلَ بِدْئِهِ مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ مِنْ طِينَةٍ حَمْرَاءَ، وَسَوْدَاءَ، وَبَيْضَاءَ، وَمِنْ طِينَةٍ طَيِّبَةٍ وَسَبْخَةٍ،

فَلِذٰلِكَ ذُرِّيَّتُهُ طَيِّبٌ وَخَبِيثٌ، أَسْوَدُ، وَأَحْمَرُ، وَأَبْيَضُ.

ثُمَّ بَلَّ ذٰلِكَ التُّرَابَ فَصَارَ طِينًا، فَذٰلِكَ قَوْلُهُ: ﴿مِنْ طِينٍ.﴾ [الصافات: ١١]، فَلَمَّا لَصِقَ الطِّينُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، فَصَارَ طِينًا لَازِبًا، يَعْنِي: لَاصِقًا.

ثُمَّ قَالَ: ﴿مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ.﴾ [المؤمنون: ١٢]،

يَقُولُ: مِثْلُ الطِّينِ، إِذَا عُصِرَ انْسَلَّ مِنْ بَيْنِ الْأَصَابِعِ.

ثُمَّ نَتَنَ فَصَارَ حَمَأً مَسْنُونًا فَخُلِقَ مِنَ الْحَمَإِ، فَلَمَّا جَفَّ صَارَ صَلْصَالًا كَالْفَخَّارِ، يَقُولُ: صَارَ لَهُ صَلْصَلَةٌ كَصَلْصَلَةِ الْفَخَّارِ، يَقُولُ: لَهُ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ الْفَخَّارِ.

 فَهٰذَا بَيَانُ خَلْقِ آدَمَ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ:

﴿مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ.﴾ [السجدة: ٨]،

فَهٰذَا بِدْءُ خَلْقِ ذُرِّيَّتِهِ، ﴿مِنْ سُلَالَةٍ﴾، يَعْنِي النُّطْفَةَ إِذَا انْسَلَّتْ مِنْ الرَّجُلِ، فَذٰلِكَ قَوْلُهُ: ﴿مِنْ مَاءٍ﴾، يَعْنِي النُّطْفَةَ ﴿مَهِينٍ﴾ يَعْنِي: ضَعِيفٍ.

فَهٰذَا مَا شَكَّتْ فِيهِ الزَّنَادِقَةُ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ:

﴿رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ.﴾ [الشعراء: ٢٨].

وَ:﴿رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ.﴾ [الرحمن: ١٧].

وَ:﴿بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ.﴾ [المعارج: ٤٠].

فَشَكُّوا فِي الْقُرْآنِ، وَقَالُوا: كَيْفَ يَكُونُ هٰذَا مِنَ الْكَلَامِ الْمُحْكَمِ؟

أَمَّا قَوْلُهُ:

﴿رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ.﴾ [الشعراء: ٢٨]

فَهٰذَا الْيَوْمُ الَّذِي يَسْتَوِي فِيهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، أَقْسَمَ اللّٰهُ سُبْحَانَهُ بِمَشْرِقِهِ وَمَغْرِبِهِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ:

﴿رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ.﴾ [الرحمن: ١٧]

فَهٰذَا أَطْوَلُ يَوْمٍ فِي السَّنَةِ، وَأَقْصَرُ يَوْمٍ فِي السَّنَةِ، أَقْسَمَ اللّٰهُ تَعَالَى بِمَشْرِقِهِمَا وَمَغْرِبِهِمَا.

وَأَمَّا قَوْلُهُ:

﴿بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ.﴾ [المعارج: ٤٠]،

فَهُوَ مَشَارِقُ السَّنَةِ وَمَغَارِبُهَا. فَهٰذَا تَفْسِيرُ مَا شَكَّتْ فِيهِ الزَّنَادِقَةُ.

وَأَمَّا قَوْلُ اللّٰهِ عَزَّ وَجَلَّ:

﴿وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ.﴾ [الحج: ٤٧]،

وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى:

﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ.﴾ [السجدة: ٥]،

وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى:

﴿تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ۞ فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا.﴾ [المعارج: ٤-٥]

فَقَالُوا: كَيْفَ يَكُونُ هٰذَا مِنَ الْكَلَامِ الْمُحْكَمِ، وَهُوَ يَنْقُضُ بَعْضُهُ بَعْضًا؟

قَالَ: أَمَّا قَوْلُهُ:

﴿وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ.﴾ [الحج: ٤٧]

فَهٰذَا مِنَ الْأَيَّامِ الَّتِي خَلَقَ اللّٰهُ فِيهَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ خَلَقَهَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، كُلُّ يَوْمٍ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ:

﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ.﴾ [السجدة: ٥]،

وَذٰلِكَ أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يَنْزِلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللّٰهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَصْعَدُ إِلَى السَّمَاءِ ﴿فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ.﴾ [السجدة: ٥]، وَذٰلِكَ أَنَّ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ مَسِيرَةَ خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ، فَهُبُوطٌ خَمْسُمِائَةٍ عَامٍ، وَصُعُودٌ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، فَذٰلِكَ أَلْفُ سَنَةٍ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ:

﴿فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ.﴾ [المعارج: ٤]،

يَقُولُ: لَوْ وَلِيَ حِسَابَ الْخَلَائِقِ غَيْرَ اللّٰهِ، مَا فَرَغَ مِنْهُ فِي يَوْمٍ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَيَفْرُغُ اللّٰهُ مِنْهُ عَلَى مِقْدَارِ نِصْفِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا، إِذَا أَخَذَ فِي حِسَابِ الْخَلَائِقِ،

فَذٰلِكَ قَوْلُهُ:

﴿وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ.﴾ [الأنبياء: ٤٧].

 يَعْنِي: لِسُرْعَةِ الْحِسَابِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ:

﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ.﴾ [الأنعام: ٢٢]،

إِلَى قَوْلِهِ:

﴿وَاللّٰهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ.﴾ [الأنعام: ٢٣]،

فَأَنْكَرُوا أَنْ كَانُوا مُشْرِكِينَ. وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى:

﴿وَلَا يَكْتُمُونَ اللّٰهَ حَدِيثًا.﴾ [النساء: ٤٢]

فَشَكُّوا فِي الْقُرْآنِ، وَزَعَمُوا أَنَّهُ مُتَنَاقِضٌ.

أَمَّا قَوْلُهُ:

﴿وَاللّٰهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ.﴾ [الأنعام: ٢٣]:

وَذٰلِكَ أَنَّ أَهْلَ الشِّرْكِ إِذَا رَأَوْا مَا يَتَجَاوَزُ اللّٰهُ عَنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِذَا سَأَلَنَا نَقُولُ: لَمْ نَكُنْ مُشْرِكِينَ. فَلَمَّا جَمَعَهُمُ اللّٰهُ، وَجَمَعَ أَصْنَامَهُمْ، وَقَالَ:

﴿أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ.﴾ [الأنعام: ٢٢]،

قَالَ اللّٰهُ:

﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللّٰهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ.﴾ [الأنعام: ٢٣].

فَلَمَّا كَتَمُوا الشِّركَ، خَتَمَ اللّٰهُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ، وَأَمَرَ الْجَوَارِحَ فَنَطَقَتْ بِذٰلِكَ، فَذٰلِكَ قَوْلُهُ:

﴿اَلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ.﴾ [يس: ٦٥].

فَأَخْبَرَ اللّٰهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنِ الْجَوَارِحِ حِينَ شَهِدَتْ.

فَهٰذَا تَفْسِيرُ مَا شَكَّتْ فِيهِ الزَّنَادِقَةُ.

أَمَّا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:

﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ.﴾ [الروم: ٥٥].

وَقَالَ:

﴿يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا.﴾ [طه: ١٠٣].

وَقَالَ:

﴿إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا.﴾ [طه: ١٠٤].

وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى:

﴿إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا.﴾ [الإسراء: ٥٢].

مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ شَكَّتِ الزَّنَادِقَةُ.

أَمَّا قَوْلُهُ:

﴿إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا.﴾ [طه: ١٠٣]:

قَالُوا ذٰلِكَ إِذَا خَرَجُوا مِنْ قُبُورِهِمْ فَنَظَرُوا إِلَى مَا كَانُوا يُكَذِّبُونَ بِهِ مِنْ أَمْرِ الْبَعْثِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنْ لَبِثْتُمْ فِي الْقُبُورِ إِلَّا عَشْرَ لَيَالٍ، ثُمَّ اسْتَكْثَرُوا الْعَشْرَ فَقَالُوا: ﴿إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا.﴾ [طه: ١٠٤] فِي الْقُبُورِ، ثُمَّ اسْتَكْثَرُوا الْيَوْمَ فَقَالُوا: ﴿إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا.﴾ [الإسراء: ٥٢]، ثُمَّ اسْتَكْثَرُوا الْقَلِيلَ، فَقَالُوا: إِنْ لَبِثْتُمْ ﴿إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ.﴾ [الأحقاف: ٣٥]. فَهٰذَا تَفْسِيرُ مَا شَكَّتْ فِيهِ الزَّنَادِقَةُ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ:

﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللّٰهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ.﴾ [المائدة: ١٠٩].

وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى:

﴿وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هٰؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ.﴾ [هود: ١٨].

فَقَالُوا: كَيْفَ يَكُونُ هٰذَا، يَقُولُونَ: ﴿لَا عِلْمَ لَنَا﴾، وَأَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: ﴿هٰؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ.﴾ [هود: ١٨].

فَزَعَمُوا أَنَّ الْقُرْآنَ يَنْقُضُ بَعْضُهُ بَعْضًا.

أَمَّا قَوْلُهُ:

﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللّٰهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ.﴾ [المائدة: ١٠٩]،

فَإِنَّهُ يَسْأَلُهُمْ عِنْدَ زَفْرَةِ جَهَنَّمَ ﴿فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ﴾ فِي التَّوْحِيد فَتَذْهَبُ عُقُولُهُمْ عِنْدَ زَفْرَةِ جَهَنَّمَ، فَيَقُولُونَ: ﴿لَا عِلْمَ لَنَا.﴾ [المائدة: ١٠٩]. ثُمَّ تَرْجِعُ إِلَيْهِمْ عُقُولُهُمْ مِنْ بَعْدُ فَيَقُولُونَ: ﴿هٰؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ.﴾ [هود: ١٨].

فَهٰذَا تَفْسِيرُ مَا شَكَّتْ فِيهِ الزَّنَادِقَةُ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ:

﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ۞ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ.﴾ [القيامة: ٢٢-٢٣]

وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى:

﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ.﴾ [الأنعام: ١٠٣]

فَقَالُوا: كَيْفَ يَكُونُ هٰذَا؟ يُخْبِرُ أَنَّهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَى رَبِّهِمْ، وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ.﴾ [الأنعام: ١٠٣]!

فَشَكُّوا فِي الْقُرْآنِ وَزَعَمُوا أَنَّهُ يَنْقُضُ بَعْضُهُ بَعْضًا.

أَمَّا قَوْلُهُ:

﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ.﴾ [القيامة: ٢٢]، يَعْنِي: اَلْحُسْنَ وَالْبَيَاضَ ﴿إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ.﴾ [القيامة: ٢٣]، يَعْنِي: تُعَايِنُ رَبَّهَا فِي الْجَنَّةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ.﴾ [الأنعام: ١٠٣]، يَعْنِي: فِي الدُّنْيَا دُونَ الْآخِرَةِ. وَذٰلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِمُوسَى:

﴿أَرِنَا اللّٰهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ.﴾ [النساء: ١٥٣]

فَمَاتُوا، وَعُوقِبُوا لِقَوْلِهِمْ ﴿أَرِنَا اللّٰهَ جَهْرَةً.﴾ [النساء: ١٥٣].

وَقَدْ سَأَلَتْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ النَّبِيَّ صَلَّى اللّٰهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا:

﴿أَوْ تَأْتِيَ بِاللّٰهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا.﴾ [الإسراء: ٩٢].

فَلَمَّا سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللّٰهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هٰذِهِ الْمَسْأَلَةَ قَالَ اللّٰهُ تَعَالَى:

﴿أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ.﴾ [البقرة: ١٠٨]،

حِينَ قَالُوا:

﴿أَرِنَا اللّٰهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ.﴾ [النساء: ١٥٣] اَلْآيَةَ.

فَأَنْزَلَ اللّٰهُ سُبْحَانَهُ يُخْبِرُ أَنَّهُ: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ [الأنعام: ١٠٣]، أَيْ أَنَّهُ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ فِي الدُّنْيَا دُونَ الْآخِرَةِ، فَقَالَ: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ [الأنعام: ١٠٣]، يَعْنِي فِي الدُّنْيَا، فَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ.

فَهٰذَا تَفْسِيرُ مَا شَكَّتْ فِيهِ الزَّنَادِقَةُ.

وَأَمَّا قَوْلُ مُوسَى:

﴿سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ.﴾ [الأعراف: ١٤٣].

وَقَالَ السَّحَرَةُ:

﴿إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ.﴾ [الشعراء: ٥١].

وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللّٰهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

﴿إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للِّٰهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.﴾ [الأنعام: ١٦٢]

إِلَى قَوْلِهِ:

﴿وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ.﴾ [الأنعام: ١٦٣].

فَقَالُوا: فَكَيْفَ قَالَ مُوسَى: ﴿وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ.﴾ [الأعراف: ١٤٣] وَقَدْ كَانَ قَبْلَهُ إِبْرَاهِيمُ مُؤْمِنٌ، وَيَعْقُوبُ وَإِسْحَاقُ؟ فَكَيْفَ جَازَ لِمُوسَى أَنْ يَقُولَ: ﴿وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ.﴾ [الأعراف: ١٤٣]؟. وَقَالَتِ السَّحَرَةُ: ﴿أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ.﴾ [الشعراء: ٥١]. وَكَيْفَ جَازَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللّٰهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ: ﴿وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ.﴾ [الأنعام: ١٦٣]، وَقَدْ كَانَ قَبْلَهُ مُسْلِمُونَ كَثِيرٌ، مِثْلَ عِيسَى وَمَنْ تَابَعَهُ؟

فَشَكُّوا فِي الْقُرْآنِ وَقَالُوا: إِنَّهُ مُتَنَاقِضٌ.

أَمَّا قَوْلُ مُوسَى:

﴿وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ.﴾ [الأعراف: ١٤٣]،

فَإِنَّهُ حِينَ قَالَ:

﴿قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ﴾، قَالَ اللهُ تعالى: ﴿لَنْ تَرَانِيَ.﴾ [الأعراف: ١٤٣]، وَلَا يَرَانِي أَحَدٌ فِي الدُّنْيَا إِلَّا مَاتَ،

﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ﴾ مِنْ قَوْلِي ﴿أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ﴾، ﴿وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ.﴾ [الأعراف: ١٤٣]،

يَعْنِي أَوَّلَ الْمُصَدِّقِينَ أَنَّهُ لَا يَرَاكَ أَحَدٌ فِي الدُّنْيَا إِلَّا مَاتَ.

وَأَمَّا قَوْلُ السَّحَرَةِ:

﴿أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ.﴾ [الشعراء: ٥١]،

يَعْنِي: أَوَّلَ مَنْ صَدَّقَ لِمُوسَى مِنْ أَهْلِ مِصْرَ مِنَ الْقِبْطِ.

وَأَمَّا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللّٰهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

﴿وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ.﴾ [الأنعام: ١٦٣]،

يَعْنِي: مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ.

فَهٰذَا تَفْسِيرُ مَا شَكَّتْ فِيهِ الزَّنَادِقَةُ.

وَأَمَّا قَوْلُ اللّٰهِ عَزَّ وَجَلَّ:

﴿أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ.﴾ [غافر: ٤٦]

وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى:

﴿فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ.﴾ [المائدة: ١١٥]

وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى:

﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ.﴾ [النساء: ١٤٥].

فَشَكُّوا فِي الْقُرْآنِ، وَقَالُوا إِنَّهُ يَنْقُضُ بَعْضُهُ بَعْضًا.

أَمَّا قَوْلُهُ:

﴿أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ.﴾ [غافر: ٤٦]،

يَعْنِي: أَشَدُّ عَذَابِ ذٰلِكَ الْبَابِ الَّذِي هُمْ فِيهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ:

﴿فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ.﴾ [المائدة: ١١٥]،

وَذٰلِكَ أَنَّ اللّٰهَ مَسَخَهُمْ خَنَازِيرَ فَعَذَّبَهُمْ بِالْمَسْخِ مَا لَمْ يُعَذِّبْ مَنْ سِوَاهُمْ مِنْ النَّاسِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ:

﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ.﴾ [النساء: ١٤٥]؛

لِأَنَّ جَهَنَّمَ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ: جَهَنَّمُ، وَلَظَى، وَالْحُطَمَةُ، وَسَقَرُ، وَالسَّعِيرُ، وَالْجَحِيمُ، وَالْهَاوِيَةُ. وَهُمْ فِي أَسْفَلِ دَرْكٍ فِيهَا.

وَأَمَّا قَوْلُ اللّٰهِ تَعَالَى:

﴿لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ.﴾ [الغاشية: ٦]،

 ثُمَّ قَالَ:

﴿إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ ۞ طَعَامُ الْأَثِيمِ.﴾ [الدخان: ٤٣-٤٤]،

فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ لَهُمْ طَعَامًا غَيْرَ الضَّرِيعِ. فَشَكُّوا فِي الْقُرْآنِ وَزَعَمُوا أَنَّهُ مُتَنَاقِضٌ.

أَمَّا قَوْلُهُ:

﴿لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ.﴾ [الغاشية: ٦]،

يَقُولُ: لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ فِي ذٰلِكَ الْبَابِ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ، وَيَأْكُلُونَ الزَّقُّومَ فِي غَيْرِ ذٰلِكَ الْبَابِ، فَذٰلِكَ قَوْلُهُ:

﴿إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ ۞ طَعَامُ الْأَثِيمِ.﴾ [الدخان: ٤٣-٤٤]؛

 فَهٰذَا تَفْسِيرُ مَا شَكَّتْ فِيهِ الزَّنَادِقَةُ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ:

﴿ذٰلِكَ بِأَنَّ اللّٰهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ.﴾ [محمد: ١١]،

ثُمَّ قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى:

﴿ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللّٰهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ.﴾ [الأنعام: ٦٢]،

فَقَالُوا: كَيْفَ يَكُونُ هٰذَا مِنَ الْكَلَامِ الْمُحْكَمِ؟ يُخْبِرُ أَنَّهُ مَوْلَى مَنْ آمَنَ، ثُمَّ قَالَ:

﴿وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ.﴾ [محمد: ١١]؟!

فَشَكُّوا فِي الْقُرْآنِ. أَمَّا قَوْلُهُ:

﴿ذٰلِكَ بِأَنَّ اللّٰهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا.﴾ [محمد: ١١]،

يَقُولُ: نَاصِرُ الَّذِينَ آمَنُوا.

﴿وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ.﴾ [محمد: ١١]،

يَقُولُ اللهُ: لَا نَاصِرَ لَهُمْ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ:

﴿ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللّٰهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ.﴾ [الأنعام: ٦٢]:

لِأَنَّ فِي الدُّنْيَا أَرْبَابًا بَاطِلَةً. فَهٰذَا تَفْسِيرُ مَا شَكَّتْ فِيهِ الزَّنَادِقَةُ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ:

﴿إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ.﴾ [المائدة: ٤٢؛ الحجرات: ٩]،

وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى:

﴿وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا.﴾ [الجن: ١٥].

فَقَالُوا: كَيْفَ يَكُونُ هٰذَا مِنَ الْكَلَامِ الْمُحْكَمِ؟

أَمَّا قَوْلُهُ:

﴿وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا.﴾ [الجن: ١٥]،

يَعْنِي الْعَادِلُونَ بِاللّٰهِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ لَهُ عِدْلًا مِنْ خَلْقِهِ فَيَعْبُدُونَهُ مَعَ اللّٰهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ:

﴿وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ.﴾ [الحجرات: ٩]

يَقُولُ: اِعْدِلُوا فِيمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ النَّاسِ، إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ.

وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى:

﴿أَإِلٰهٌ مَعَ اللّٰهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ.﴾ [النمل: ٦٠]،

يَعْنِي: يُشْرِكُونَ. فَهٰذَا مَا شَكَّتْ فِيهِ الزَّنَادِقَةُ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ:

﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ.﴾ [التوبة: ٧١]،

وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى:

﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا.﴾ [الأنفال: ٧٢]،

فَكَانَ هٰذَا عِنْدَ مَنْ لَا يَعْرِفُ مَعْنَاهُ يَنْقُضُ بَعْضُهُ بَعْضًا. أَمَّا قَوْلُهُ:

﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ.﴾ [الأنفال: ٧٢]،

يَعْنِي: مِنَ الْمِيرَاثِ، وَذٰلِكَ أَنَّ اللّٰهَ عَزَّ وَجَلَّ حَكَمَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا هَاجَرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ أَنْ لَا يَتَوَارَثُوا إِلَّا بِالْهِجْرَةِ، فَإِنْ مَاتَ رَجُلٌ بِالْمَدِينَةِ مُهَاجِرٌ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللّٰهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَهُ أَوْلِيَاءٌ بِمَكَّةَ لَمْ يُهَاجِرُوا كَانُوا لَا يَتَوَارَثُونَ، وَكَذٰلِكَ إِنْ مَاتَ رَجُلٌ بِمَكَّةَ وَلَهُ وَلِيٌّ مُهَاجِرٌ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللّٰهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لا يَرِثُهُ الْمُهَاجِرُ؛

فَذٰلِكَ قَوْلُهُ:

﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ.﴾ مِنَ المِيرَاثِ ﴿حَتَّى يُهَاجِرُوا.﴾ [الأنفال: ٧٢].

فَلَمَّا كَثُرَ الْمُهَاجِرُونَ رَدَّ اللّٰهُ ذٰلِكَ الْمِيرَاثَ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ، هَاجَرُوا أَوْ لَمْ يُهَاجِرُوا، فَذٰلِكَ قَوْلُهُ:

﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّٰهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ.﴾ [الأحزاب: ٦].

وَأَمَّا قَوْلُهُ:

﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ.﴾ [التوبة: ٧١]،

يَعْنِي: فِي الدِّينِ، وَالْمُؤْمِنُ يَتَوَلَّى الْمُؤْمِنَ فِي دِينِهِ. فَهٰذَا تَفْسِيرُ مَا شَكَّتْ فِيهِ الزَّنَادِقَةُ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِإِبْلِيسَ:

﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ.﴾ [الحجر: ٤٢؛ الإسراء: ٦٥].

وَقَالَ مُوسَى حِينَ قَتَلَ النَّفْسَ:

﴿هٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ.﴾ [القصص: ١٥].

فَشَكُّوا فِي الْقُرْآنِ وَزَعَمُوا أَنَّهُ مُتَنَاقِضٌ.

أَمَّا قَوْلُهُ:

﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ.﴾ [الحجر: ٤٢؛ الإسراء: ٦٥]،

يَقُولُ: عِبَادَهُ الَّذِينَ اسْتَخْلَصَهُمُ اللّٰهُ لِدِينِهِ لَيْسَ لِإِبْلِيسَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ أَنْ يُضِلَّهُمْ فِي دِينِهِمْ، أَوْ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِمْ، وَلٰكِنَّهُ يُصِيبُ مِنْهُمْ مِنْ قِبَلِ الذُّنُوبِ. فَأَمَّا فِي الشِّرْكِ فَلَا يَقْدِرُ إِبْلِيسُ أَنْ يُضِلَّهُمْ عَنْ دِينِهِمْ لِأَنَّ اللّٰهَ سُبْحَانَهُ اسْتَخْلَصَهُمْ لِدِينِهِ.

وَأَمَّا قَوْلُ مُوسَى:

﴿هٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ.﴾ [القصص: ١٥]،

 يَعْنِي: مِنْ تَزَيُّنِ الشَّيْطَانِ، كَمَا زَيَّنَ لِيُوسُفَ، وَلِآدَمَ وَحَوَّاءَ، وَهُمْ عِبَادُ الرَّحْمٰنِ الْمُخْلَصُونَ.

فَهٰذَا تَفْسِيرُ مَا شَكَّتْ فِيهِ الزَّنَادِقَةُ.

وَأَمَّا قَوْلُ اللّٰهِ لِلْكُفَّارِ:

﴿اَلْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هٰذَا.﴾ [الجاثية: ٣٤]،

وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى:

﴿فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى.﴾ [طه: ٥٢].

فَشَكُّوا فِي الْقُرْآنِ. أَمَّا قَوْلُهُ:

﴿اَلْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هٰذَا.﴾ [الجاثية: ٣٤]،

يَقُولُ: نَتْرُكُكُمْ فِي النَّارِ ﴿كَمَا نَسِيتُمْ.﴾ [الجاثية: ٣٤]، كَمَا تَرَكْتُمُ الْعَمَلَ لِلِقَاءِ يَوْمِكُمْ هٰذَا.

وَأَمَّا قَوْلُهُ:

﴿فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى.﴾ [طه: ٥٢]،

يَقُولُ: لَا يَذْهَبُ مِنْ حِفْظِهِ وَلَا يَنْسَاهُ.

وَأَمَّا قَوْلُ اللّٰهِ عَزَّ وَجَلَّ:

﴿وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ۞ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا.﴾ [طه: ١٢٤-١٢٥]،

وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:

﴿فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ.﴾ [ق: ٢٢].

فَقَالُوا: كَيْفَ يَكُونُ هٰذَا مِنَ الْكَلَامِ الْمُحْكَمِ؟ يَقُولُ: إِنَّهُ أَعْمَى، وَيَقُولُ:

﴿فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ.﴾ [ق: ٢٢]

فَشَكُّوا فِي الْقُرْآنِ. أَمَّا قَوْلُهُ:

﴿وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى.﴾ [طه: ١٢٤]، يَعْنِي: عَنْ حُجَّتِهِ، ﴿قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى.﴾ [طه: ١٢٥] عَنْ حُجَّتِي، ﴿وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا.﴾ [طه: ١٢٥] لَهَا، مُخَاصِمًا بِهَا.

فَذٰلِكَ قَوْلُهُ:

﴿فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ.﴾ [القصص: ٦٦]، يَقُولُ: اَلْحُجَجُ، ﴿فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ.﴾ [القصص: ٦٦].

وَأَمَّا قَوْلُهُ:

﴿فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ.﴾ [ق: ٢٢]:

وَذٰلِكَ أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا خَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ شَخَصَ بَصَرُهُ، وَلَا يَطْرِفُ بَصَرُهُ حَتَّى يُعَايِنَ جَمِيعَ مَا كَانَ يُكَذِّبُ بِهِ مِنْ أَمْرِ الْبَعْثِ،

فَذٰلِكَ قَوْلُهُ:

﴿لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هٰذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ.﴾، يَقُولُ: غِطَاءُ الْآخِرَةِ، ﴿فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ.﴾ [ق: ٢٢]، يَحِدُّ النَّظَرَ، لَا يَطْرِفُ حَتَّى يُعَايِنَ جَمِيعَ مَا كَانَ يُكَذِّبُ بِهِ مِنْ أَمْرِ الْبَعْثِ؛

فَهٰذَا تَفْسِيرُ مَا شَكَّتْ فِيهِ الزَّنَادِقَةُ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ لِمُوسَى:

﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى.﴾ [طه: ٤٦]،

وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى:

﴿إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ.﴾ [الشعراء: ١٥].

وَقَالُوا: كَيْفَ قَالَ:

﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا.﴾ [طه: ٤٦]،

وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى:

﴿إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ.﴾ [الشعراء: ١٥].

فَشَكُّوا فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ. أَمَّا قَوْلُهُ:

﴿إِنَّا مَعَكُمْ.﴾ [الشعراء: ١٥]،

فَهٰذَا فِي مَجَازِ اللُّغَةِ. يَقُولُ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: إِنَّا سَنُجْرِي عَلَيْكَ رِزْقَكَ، إِنَّا سَنَفْعَلُ بِكَ كَذَا خَيْرًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ:

﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى.﴾ [طه: ٤٦]،

فَهُوَ جَائِزٌ فِي اللُّغَةِ، يَقُولُ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ لِلرَّجُلِ: سَأُجْرِي عَلَيْكَ رِزْقَكَ، أَوْ سَأَفْعَلُ بِكَ خَيْرًا.

قَالَ الْخَلَّالُ: أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ جَابِرٍ، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَبِيبٍ قَالَ: قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللّٰهُ:

كَتَبْتُ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ أَكْثَرُ مِمَّا كَتَبَ أَبُو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ.
🡱 🡳